د / يوسف مكي
في كتابه “حرب الثلاثين سنة، ملفات السويس” يذكر الأستاذ محمد حسنين هيكل أن الرئيس جمال عبدالناصر، التقى في أواخر عام ،1952 بعد خمسة أشهر فقط على ثورة 23 يوليو النائب البريطاني، ريتشارد كروسمان، وتحدث الرئيس عن أحلام مصر في التنمية، فسأله كروسمان عن نياته تجاه “إسرائيل”، فأجابه أن الصراع معها ليس من أولوياته، وأن جلّ جهده يتركز في تحقيق الجلاء البريطاني والاستقلال الوطني، والشروع في برنامج تنمية طموح لبلاده .
غادر كروسمان مصر، وعاد إليها بعد أسبوع، وقابل مجدداً الرئيس عبدالناصر، وأبلغه أنه التقى رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ديفيد بن غوريون، وأبلغه بالحديث الذي جرى معه، من أن الصراع مع “إسرائيل” ليس من أولويات مصر . وأن أولوياتها تتركز في تحقيق الجلاء البريطاني عنها، وأنه مهتم بتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلاده . كان جواب الزعيم الصهيوني بن غوريون أن ذلك الخبر هو أسوأ ما سمع في شهوره الأخيرة .
هذه المقدمة، تعيدنا إلى موضوع هذا الحديث، موقف الكيان الصهيوني من ثورة الثلاثين من يونيو ،2013 فالمشروع الوطني المصري، يقوم على ضلعين رئيستين هما تحقيق الاستقلال الوطني والتنمية المستقلة، وكلاهما رهن بتوفر الوعي والإرادة والقدرة . وقد عملت مصر في حقبة النهوض القومي على توفير هذه الشروط، فرادى ومجتمعة، فخاضت معارك باسلة من أجل الحفاظ على إرادتها واستقلالها .
كانت معركة أكتوبر عام ،1973 انتصاراً للسلاح وفشلاً للسياسة، وقد مثلت انتقالاً استراتيجياً في طبيعة الصراع العربي، مع الكيان الغاصب . وفي الفترة التي أعقبتها، برزت تصريحات خطيرة لهنري كيسنغر مستشار الرئيس الأمريكي لشؤون الأمن القومي، أهمها أن “إسرائيل” تمكنت بالدعم الأمريكي من أن تهزم الجيوش العربية مجتمعة مرة أخرى، وأنه حان الوقت لتتحول من أقوى قوة إقليمية عسكرياً، إلى أكبر دولة إقليمية .
واقع الحال، أن مجمل ما هو على الأرض، لا يمكن أن يجعل من الكيان الغاصب أكبر دولة إقليمية، لأن حقائق الجغرافيا والتاريخ لا تسمح بذلك . وما دام الأمر كذلك، فإن حلم كيسنغر في جعل “إسرائيل” أكبر دولة إقليمية، لن يتحقق إلا في تأسيس كيانات عربية على المقاس الصهيوني، دول تستمد هويتها وعناصر تكوينها من الانتماءات الطائفية والمذهبية، وتفجير الصراع بين الأعراق والمذاهب والطوائف وأتباع الديانات المختلفة بالوطن العربي . وكانت تلك التصريحات في حينه، مثار سخرية وتندر واستغراب، حيث لم تكن العناصر التي تسندها، متوافرة بعد .
تأكد الانتقال الاستراتيجي العربي، في النظرة إلى طبيعة الصراع مع الصهاينة، بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد، برعاية أمريكية، بين مصر والكيان الصهيوني في سبتمبر عام ،1978 التي حولت صراع الوجود إلى نزاع على الحدود . وتزامن ذلك بصعود ما عرف بالصحوة الإسلامية، بتياراتها المتشددة، وعناوينها المختلفة . وقد دعت إلى الهجرة وتكفير المجتمع، لتتحول لاحقاً إلى قوى إرهابية، تقضي على الأخضر واليابس، وتسهم بشكل فاعل في مشاريع التفتيت، التي بدأت تطل بوضوح، معيدة إلى الذاكرة تصريحات كيسنغر في منتصف السبعينات من القرن المنصرم . ما أعقب توقيع كامب ديفيد هو تقييد سيادة مصر، وحرمانها من عمقها الاستراتيجي العربي، والحيلولة دون مشاركة جيشها في الدفاع عن الأمة العربية . وكان عقد الثمانينات من القرن المنصرم، قد اتسم بعربدة “إسرائيلية” غير مسبوقة، شملت ضرب مفاعل تموز العراقي، واحتلال بيروت والعدوان على تونس، واغتيال القادة الفلسطينيين . من أمثال خليل الوزير وصلاح خلف، كما شهدت الحرب العراقية الإيرانية، وهي أطول حرب في تاريخ العرب الحديث .
ومع الفراغ التي تركته مصر، في الصراع العربي الصهيوني، وترحيل الفلسطينيين، إلى أقطار عربية، كاليمن وتونس، بعيداً عن مركز المواجهة في فلسطين، وتراجع انتفاضة أطفال الحجارة في نهاية الثمانينات، وانشغال العرب بحرب الخليج الثانية، وجدت التيارات المتشددة ضالتها لتوسع من دائرة تحركها على كل الصُعُد . وكان صعود حماس إلى الواجهة في قطاع غزة وبقية المناطق المحتلة، هو تعبيراً عن تراجع دور التيار المدني في النضال الوطني الفلسطيني، لمصلحة جماعة الإخوان المسلمين .
وجاءت التصريحات الأمريكية، عن الشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة ومخاض الولادة الجديدة، لتفصح عن رغبة الولايات المتحدة في وضع مشاريع تفتيت الوطن العربي، التي تحدث عنها كيسنغر في السبعينات قيد التنفيذ .
ومن غير شك، فإن المناخ الطبيعي لمشروع التفتيت، هو ليس سيادة مفهوم المواطنة، ولا الدولة المدنية، أو التحول الديمقراطي، ولكنه الاحتراب واستعادة روح هويات ما قبل التاريخ . وكان الربيع أو الخريف العربي، رغم كل الشعارات البراقة، التي رافقته، هو المعبر لتحقيق مشروع الشرق الأوسط، ولتتحول البلدان العربية إلى كانتونات صغيرة عاجزة، تستمد مشروعها من الانتماء إلى الجماعة وليس الانتماء للوطن .
في مناخات العتمة والعجز، صمدت اتفاقية كامب ديفيد، وبقي ثلثا شبه جزيرة سيناء مجردين من السلاح الوطني، حيث كفلت المادة الرابعة من تلك الاتفاقية للكيان الصهيوني حرمان مصر، من ممارسة سيادتها الكاملة فوق أراضيها . وقد استعيض عن ذلك بوجود قوات متعددة الجنسيات عمادها أمريكي، غير خاضعة للأمم المتحدة، تتمركز في مواقع غير مسموح للقوات المصرية التمركز فيها .
وبموجب المادة الثالثة من هذه الاتفاقية، لا يحق لأي حكومة مصرية أن تطالب بسحبها من دون موافقة الدول الأعضاء الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي مجتمعة، وبموجبها أيضاً حرمت مصر من بناء أي مطارات أو موانئ عسكرية في سيناء . ولاشك أن انتقاص السيادة المصرية على سيناء حوّلها إلى منطقة فراغ أمني، مكّن العناصر الإرهابية، المتعاطية مع جماعة الإخوان إضافة إلى المهربين والخارجين عن القانون أو المطلوبين من أن يصولوا ويجولوا فيها، من غير حساب أو متابعة من قبل الجيش المصري . وكانت نتيجة ذلك أن تحولت الأوضاع في سيناء إلى خناجر تهدد الأمن الوطني المصري .
استعادة مصر لسيادتها، وخروجها من عباءة الجماعة إلى الدولة المدنية، هو هي خطوة على طريق تعزيز مفهوم المواطنة وقيام الدولة المدنية، الدولة المعتمدة على ضلعي الاستقلال الوطني الكامل، والتنمية المستقلة، اللذين وجد فيهما مؤسس الدولة الصهيونية، تهديداً حقيقياً ومباشراً للكيان الغاصب .