مريم أبو إدريس
صرحت وزيرة الدولة لشئون الإعلام والمتحدثة الرسمية باسم الحكومة السبت الماضي أن استدعاء النيابة العامة لأمين عام جمعية «الوفاق»، كان على خلفية إقامة جمعيته لفعالية عرضت خلالها نماذج وهياكل ولوحات تمثل الممارسات اللاإنسانية وانتهاك حقوق الإنسان، واعتبرت المتحدثة باسم الحكومة أن جميع ذلك شكّل إهانةً للشرطة باختلاق أمور ومظاهر باطلة ومكذوبة.
إن جزءًا من الأزمة التي نعانيها في البحرين هي عدم الاعتراف بما وقع من انتهاكات ومظالم وأخطاء، ذلك أن الاعتراف بالشيء هو أول الخطوات نحو إصلاحه، أما الإنكار والقفز نحو المستقبل متجاوزين محطات الألم التي مر بها البعض، أثناء عملية الإصلاح والمطالبة فهو لا يعدو مراكمةً للألم الذي لم يعالج، وبالتالي سيؤدي لاحقاً إلى كوارث إنسانية تنتج من الغضب البشري الذي تعمق بفعل التجاهل.
لقد وثق تقرير اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق تجاوزات وانتهاكات في فترة زمنية محدّدة، وهي انتهاكات تدرّجت من الاستخدام المفرط للقوة وحتى التعامل المفضي إلى الموت. واعتبار البشر ملائكةً مهما كانت وظيفتهم والدور الذي يقومون به، لا يعدو شيئاً من الجهل بطبيعة النفس البشرية. فالتجاوزات أمر وارد طالما من يقوم بالعمل بشر، ويجب الاعتراف بطبيعتهم البشرية وليس التظاهر بكونهم آلات لا تخطيء أو تتجاوز.
لقد تغيّرت نظرة العالم اليوم في تعاطيها مع ملفات انتهاكات حقوق الإنسان، وأصبحت المكاشفة والاعتراف، ثم الاعتذار والمحاسبة والتعويض، هي الخطوات الصحيحة نحو إنهاء ملفات حقوق الإنسان العالقة. ويمكن اعتبار موافقة الحكومة البريطانية على تعويض المحاربين القدامى في منظمة «الماو ماو» الكينية على الجرائم ضد الإنسانية التي مورست في فترة الاستعمار البريطاني لكينيا، وما كشفت عنه الوثائق السرية لممارسات العسكر في خمسينيات القرن الماضي، إنهاءً للمحاولات المستمرة منذ عدة سنوات لانتزاع اعتراف بما وقع من قتل وتعذيب، وتحوّل الكينيين بعدها للشفاء من ماضيهم المؤلم، ذلك أن الإنسان لا يعبر الألم إلا عبر اعتراف حقيقي بما وقع، ومواجهة أخلاقية لما ارتكب.
إن موافقة السلطة على ما ورد في تقرير لجنة تقصي الحقائق التي وثّقت بالتفصيل لانتهاكات جسيمة وقعت مع بدء المطالب الإصلاحية، والقبول بتحويل مرتكبي تلك الانتهاكات والجرائم للعدالة، كان يجب أن يكون الأساس الذي تنطلق منه عملية الإصلاح والمصالحة، لكن ما وقع بعد ذلك من تهوينٍ لعمليات القتل التي وُثّقت، وصدور أحكام مخففة لا تتناسب مع حجم الجرم الذي حدث، يجعل من الأمر قائماً لحين الشعور بأن العدالة قد أخذت مجراها.
لا يجب محاربة إقامة الأنشطة والفعاليات التي توثق لمراحل نضالات ومطالب الشعوب، بل على السلطات أن تتعامل معه كجزء من الإرث التاريخي للجماعة، وهو أمر قائم في عدة دول بالعالم ومن بينها المغرب، حيث مكّنت السلطات المغربية أعضاء مواقع الضمير والذاكرة من الحصول على القصور التي كان يشتريها أحد القادة العسكريين، وما يلبث أن يحوّلها لمعتقلات للتعذيب والقتل، حيث قام أعضاء التحالف الدولي لمواقع الضمير والذاكرة بتحويل هذه القصور إلى «متاحف للذاكرة». وليس الأمر تحريضاً كما ينظر له، بل مواجهةٌ مع الحقيقة وتقبّلها، واستحداث ثقافة مجتمعية قائمة على احترام الإنسان، والحفاظ على قدسية النفس البشرية.
إن مصادرة حق الشعوب في ذاكرة جمعية ملموسة تؤرخ للحراك الشعبي والتطور المجتمعي، لا يلغي قدرة هذه الشعوب على خلق ذاكرة افتراضية جمعية، تؤرّخ بالتوارث للأحداث التي وقعت عبر امتداد زمني أطول من تلك التي توثق لها متاحف الذاكرة المستندة في عملية التوثيق على ما يمكن إثباته ورصده.
على السلطات العربية مواكبة التحول الإنساني الذي تخضع له دول وشعوب العالم المتقدم، والاعتراف بما وقع والسماح للغفران أن يعبر عبر مصالحة طويلة الأمد بين الفرقاء والمختصمين، لا عبر الإنكار والقفز على ما وقع.