د/يوسف مكي
في التاريخ قامات سامقة، لا يمكن تجاوزها عند قراءة التاريخ المعاصر للأمة . فهي جزء حي من ذاكرتها الجمعية، ورمز عنفوانها وكبريائها، وقدرتها على صناعة المستحيل . إن ما يمنح هذه القامات قوة حضورها، أنها تأتي في لحظة انسداد، وأزمة ضميرية . ولذلك يشكل وجودها مرحلة انتقال مفصلية من حال الهزيمة واليأس إلى حال الكفاح وتحقيق الكرامة، وهي بما تمتلكه من وعي وقدرة على التعبئة والتحشيد، وتوجه مبدئي وثابت نحو الهدف، فإنها شأنها شأن كل العظام تقيم التاريخ على أكتافها .
الراحل الكبير المناضل والقائد، الرئيس أحمد بن بيلا، الذي نكرس من أجل روحه هذا الحديث، هو إحدى أبرز القامات الكبيرة في تاريخ الكفاح الوطني، العربي ضد الاستعمار، التي ينسحب عليها هذا التوصيف .
بدأ بن بيلا حياته لاعباً لكرة القدم، ونال إعجاب من جايلوه . لكنه أدرك لاحقاً أن هذا الدور هو أقل من قامته وطموحه بكثير، وأن أي مجد أو تقدم لبلاده الجزائر، لن يكون خارج حريتها واستقلالها وقدرتها على الإمساك بزمام مقاديرها . أدرك ما تستهدفه الإدارة الفرنسية من استعمار الجزائر . فما طمح له الفرنسيون لم يكن مجرد احتلال، ولكن استعمار استيطاني عمل على فرنسة هذا البلد العربي، الواقع في الجنوب الغربي من البحر الأبيض المتوسط، وتذويب هويته ومصادرة موروثاته، والتنكر لمعتقداته وثقافاته .
وكانت هذه الأسباب أكثر من كافية، لينحاز الشاب بن بيلا إلى شعبه من دون تردد، وليصبح أحد المؤسسين الأوائل لجبهة التحرير الجزائري الوطنية، بعد أن مر برحلة الارتباط بحزب الشعب، الذي كان ضمن الأحزاب السياسية التي قادت النضال في المرحلة التي سبقت اندلاع الثورة المسلحة . وخلال معركة الكفاح عرفه الجزائريون والعرب جميعاً قائداً فذاً، ومقاتلاً عنيداً ومناضلاً صلباً ضد المستعمر الفرنسي .
اقترب الرئيس أحمد بن بيلا من الفكر القومي ومن مصر الناصرية، قبل شهور قليلة من اندلاع الثورة الجزائرية المسلحة . ويذكر محمد حسنين هيكل، في كتابه حرب الثلاثين سنة- ملفات السويس أن بن بيلا قدم إلى القاهرة ذات مساء في السنة الثالثة للثورة المصرية، حاملاً اسماً مستعاراً هو مزياني مسعود . وجرى ترتيب لقاء له مع الرئيس جمال عبد الناصر . وفي ذلك اللقاء أبلغ بن بيلا عن اسمه الحقيقي، وذكر أن مزياني مسعود هو اسم مستعار، يستخدمه تخفياً من بطش المستعمر . ويشير هيكل، إلى أن بن بيلا لم يتمكن، في ذلك اللقاء، من التعبير عن نفسه باللغة العربية . وبديلاً عنها تحدث بالفرنسية، متخذاً من ذلك دليلاً على بشاعة الاستعمار الفرنسي، وسعيه الدؤوب لتغييب الهوية الجزائرية، بتغييب اللغة العربية .
خلال اللقاء بالرئيس عبد الناصر، وضع بن بيلا تصوراً متكاملاً عن إمكانية تحرر الجزائر . وقدم تفاصيل كاملة عن تنظيم المقاومة الذي ينتمي إليه . وطلب مساعدة مصر بالسلاح ووافق الرئيس المصري على ذلك . وفي هذا اللقاء أيضاً، أبلغ بن بيلا الرئيس عبد الناصر، أن المقاومة الجزائرية التي ينتمي لها سوف تبدأ عملياتها المسلحة ضد الفرنسيين، في 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 1954 .
وفي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، بدأت وكالات الأنباء تتحدث عن حركة عصيان وتمرد ضد الوجود الفرنسي في الجزائر، فاقت حدودها ما كان متصوراً . وفتح جمال عبدالناصر، كل أبواب المساعدة والإمداد للثورة . وكانت القاهرة، في مراحل لاحقة المقر الرئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة التي قادت الكفاح حتى النصر، وكان الراحل بن بيلا هو واضع أول لبنة في العلاقة الكفاحية بين مصر والجزائر .
شق بن بيلا طريقه في جبهة التحرير الوطنية، قائداً مناضلاً وبطلاً مبادراً يتحدى بصبره وصموده مصاعب الدرب . وقد أثار هذا الدور النضالي المتميز غضب الفرنسيين وحنقهم، فقاموا باختطاف طائرة من المغرب كانت تقله مع أربعة من رفاقه، عام ،1955 وبقوا أسرى في السجون الفرنسية حتى عشية استقلال الجزائر، ولتتحول عملية الاختطاف إلى فضيحة أخرى تضاف إلى جرائم الفرنسيين بالجزائر .
شارك من داخل سجن الاحتلال في المفاوضات بين جبهة التحرير والفرنسيين التي تكللت بموافقة الفرنسيين على وقف إطلاق النار، والاعتراف بالجزائر جمهورية حرة عربية مستقلة . وعندما عاد من الأسر إلى أرض الجزائر جرى له استقبال شعبي عز نظيره . وإثر تحقق النصر، وانسحاب الفرنسيين، كان قدر بن بيلا أن يكون أول رئيس للجمهورية الوليدة . ساهم مع رفاقه في بناء الجزائر الحديثة، اجتهد وأصاب وأخطأ لكن إيمانه بمستقبل أمته ظل قوياً لا تزعزعه الرياح أو الأعاصير .
وحين احتدم الصراع بين رفاق كفاح الأمس ضد المستعمر، كان نصيبه انقلاباً عسكرياً على سلطته، وتنحيته عن الحكم، واعتقاله وبقاءه بالسجن لأكثر من أربعة عشر عاماً، إلى نهاية السبعينات من القرن المنصرم . لقد جرى إطلاق سراحه إثر وفاة الرئيس هواري بومدين، أحد قادة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والشخص الأول ضمن من قادوا الانقلاب عليه .
عرف بن بيلا، في كل سنوات عمره التسع والتسعين، بالكفاح والشجاعة والصبر والاستقامة، والتسامح والأخلاق الفاضلة، والقناعة، وبالإيمان بحق أمته العربية في الوحدة والحرية والكرامة . وكانت هذه القضايا من المواضيع الأثيرة، التي يأسره دائماً الحديث عنها، في سنواته الأخيرة . وكان مدافعا شرساً عن فلسطين، وعن حق شعبها في العودة إلى دياره .
ولم يجانب الصديق معن بشور، رئيس منتدى التواصل العالمي، الحقيقة حين أشار إلى أن أهم ما يميز عقل الرئيس بن بيلا، أن الماضي لديه لم يكن سجناً، بل مدرسة تواكب اهتمامه وإيمانه المذهل بالمستقبل . فلم تكن تخلو كلمة له أو محاضرة أو خطاب، من حديث مستقبلي مدعوم بالأرقام والتحليلات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، خصوصاً في الفترة التي ترأس فيها المنتدى الاجتماعي الاقتصادي العالمي الذي يضم في كل دورة من دوراته عشرات الآلاف من الناشطين والمناضلين والباحثين من كل أنحاء العالم .
وقد أضافت له تجربة الكفاح الجزائري إيماناً مضاعفاً بنظرية تفوق موازين الإرادات على موازين القوى، حيث يكون للإيمان أسبقية وتقدماً على القوة . فقد رأى بأم عينه، كيف أن بضع بنادق بدأ بها مجاهدو الجزائر تمكنت من هزيمة جيش إمبراطوري، مدعوم بقوة حلف الأطلسي . وكان دائماً يشير على الفلسطينيين باقتداء التجربة الجزائرية لهزيمة المشروع الصهيوني .
في صمت وبعد عمر مديد وحافل، رحل البطل، القائد، المتسامي، الرئيس أحمد بن بيلا، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إليه . عزاؤنا أنه ترك لنا فكراً نيراً، وسيرة فذة تنير لهذا الجيل وللأجيال المقبلة بعضاً من معالم الدرب . رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وأصدقاءه ومحبيه وشعب الجزائر والأمة العربية الصبر والسلوان .