الدكتور غالب الفريجات
قدر كل المناضلين الشرفاء الذين يتنفسون تراب الوطن، ويضحون بالغالي والنفيس من أجل تحقيق مبادئ الأمة، في الوحدة والحرية والاشتراكية من أبناء هذه الامة، الذين مازالوا يعتقدون أن العروبة ليست فعل ماضي، وإنها وإن لم تكن فعل مضارع اليوم، فالمستقبل لها، وبها فعل بالضرورة وآمالاً في العلا، ورغم كل المؤامرات الدولية والاقليمية والداخلية بقي يحمل مناضلوها مشعل النضال، ولم يصابوا بلوثة الانحراف عن المبادئ التي أصابت الآخرين، الذين سقطوا على الطريق، وانحرفوا مائة وثمانين درجة عن خط النضال.
طارق عزيز كان عروبياً حد النخاع، و مناضلاً فذاً لم تكسره عاتيات الزمان، ولم ينحرف قيد بوصلة عن مسار النضال القومي، حتى وهو في سجون العصاة المارقين من الطائفيين والعملاء والجواسيس، الذين أرادوا مقايضة مرضه بالتنازل، ولو قيد شعرة عما آمن به من مبادئ، فكان عصياً على هؤلاء، لم يقدم لهم ما كانوا يأملون به من نكوص عن المبادئ، لأنه ولد في رحم النضال القومي، الذي قدم نموذجه الحقيقي في مواجهة الغزو والاحتلال الامبريالي الصهيوني الصفوي.
طارق عزيز من مدرسة البعث التي كانت ثورة في السلم والحرب، ترك رفاقه المكاتب وتحولوا إلى الخنادق، خنادق المقاومة التي أذاقت الامريكان مرارة المواجهة، فولوا هاربين خوفاً من خزي الهزيمة، فسقطت الشعارات التي خدعوا بها العالم، وعرت السمات الديمقراطية والانسانية التي تلفعوا بها، وحولوا عراق العروبة إلى ساحة هيمنة للطائفيين وملالي الفرس المجوس، وعروا هؤلاء الذين يتشدقون بالاسلام زوراً وبهتانا، من أجل تحقيق قومية لهم قد اندثرت، وما كان لها أن تعود لأن التاريخ قد طمس معالمها.
ابو زياد كان رجل دولة صبغ السياسة بالمبادئ، فكانت المبادئ بوصلة العمل السياسي الذي كان يقوده في دولة أراد لها أبناؤها البررة أن تكون طليعة النضال القومي، في أمة تنشد الوحدة والحرية والتحرر في عالم معتوه، مصاب بلوثة العدوانية الانسانية، تسوده وتقوده الامبريالية المتوحشة والصهيونية العالمية، إلى جانب الصغار من العبيد ممن أوغل الحقد الطائفي صدورهم في هذا الاقليم.
طارق عزيز كان نموذج المناضلين الذين قبضوا على المبادئ كالقابض على الجمر، فهانت عليه نفسه دون أن يسمح أن تهان عليه مبادؤه، فكان صبره اسطوري في سجون المحتلين من العملاء والخونة والطائفيين، وهو يعاني من المرض الجسدي، وما آلت اليه الأمة التي كان ينشد مستقبلها، لتعيد تاريخ امجادها في نموذجها الانساني، عندما استوعبت كل مواطنيها، وأعطت للانسان العربي دوره الحضاري.
طارق عزيز رحل عن هذه الدنيا الموبوأة بالحقد الطائفي، والقتل الدموي، والتشريد الانساني، وفي وطن مزقته الطائفية، وانهكت انسانه الاحقاد المجوسية، بدلاً مما كان ينعم به من أمن وأمان، ورغم قسوة الظلم الامبريالي والاستهداف الصهيوني في الحصار القاتل، كان المواطن العراقي يعيش حياته بكل طمأنينه، لم يعرف للخوف مكاناً ولا للظلم مسكناً، وكان للقدر العراقي دوره في معاني العروبة والاخوة القومية، وكان لقيادته تمسكها بعروبة فلسطين والايمان القاطع بحتمية تحريرها.
يحق لابي زياد أن يفخر بانتمائه للنضال القومي، واحداً من رموزه، وفاعلاً في أحداثه، ومازال الامل يملأ قلوب كل المخلصين من رفاقه أن تنهض أمتهم ويحققوا أهدافها، وينجزوا مشروعاتها رغم قسوة الظروف، وعدم توافر الامكانيات إلا ما تزخر به أمتهم من بطولات، وما تملأه بطون كتب التاريخ من أمجاد، الم تعلمنا المدرسة القومية أن التاريخ يقاتل مع أبنائه، وهذه الأمة لها تاريخها المجيد، ولها رسالتها الخالدة.
يحق لطارق عزيز أن ينام مرتاح البال رغم الجراحات التي أصابت الوطن، لأن هذا الوطن قد أنجب قامات نضالية نموذجاً في التضحية، لم تنكسر ولا استطاعت كل قوى البغي والعدوان أن تلوي يد واحد من رفاقه، الذين ظن البعض من الصغار أن هؤلاء سيتراجعون عن المبادئ التي آمنوا بها، أو يساومون في مواجهة ما يواجهون من قسوة الظلم، والقمع والاضطهاد، وسياسة التشريد والاجتثاث التي حلموا أن تسد الأبواب أمام طريق المناضلين.
نم قرير العين ياأبا زياد، فوالله أنك كنت الرجل الدمث الأخلاق، والسياسي المثقف الذي وسعت ثقافته كل ما يجري على ساحة السياسة الدولية، فكنت واحداً من القلائل الذين أدوا وظيفتهم بجدارة قلّ نظيرها، فالمبادئ التي تشربتها في المدرسة العروبية كانت النموذج والبوصلة التي يهتدي بها كل الناظرين لغد مشرق لهذه الأمة العظيمة، رحمك الله برحمته وأسكنك فسيح جنانه، والهم أهلك ورفاقك الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.