• منشورات
    • نشرة الطليعة
  • صور وتسجيلات
    • معرض الصور
    • تسجيلات
  • دراسات واوراق عمل
  • وثائق وتقارير
  • فعاليات وانشطة
  • بيانات
  • مقالات
  • من نحن
    • هوية التجمع
    • الامانة العامة
    • النظام الأساسي
    • برنامج العمل
    • طلب الإنتماء
    • اتصل بنا
  • البداية
التجمع القومي الديمقراطي
  • منشورات
    • نشرة الطليعة
  • صور وتسجيلات
    • معرض الصور
    • تسجيلات
  • دراسات واوراق عمل
  • وثائق وتقارير
  • فعاليات وانشطة
  • بيانات
  • مقالات
  • من نحن
    • هوية التجمع
    • الامانة العامة
    • النظام الأساسي
    • برنامج العمل
    • طلب الإنتماء
    • اتصل بنا
  • البداية
01 يناير 2020

شاذل طاقة الشاعر والوزير والإنسان

...
يناير 1, 2020 16

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
الحلقة الأولى
 
مقدمه

نشرت الصحف ومواقع انترنت عديدة مؤخرا مقالات تناولت التجربة الادبية والشعرية لوالدي المرحوم شاذل طاقة. لن أتحدث عن الجانب الأدبي من الإسهامات تلك فذلك من اختصاص المعنيين بشؤون الشعر والأدب، لكني أرغب في تسليط بعض الضوء على جانب آخر من حياة شاذل طاقة يرتبط بتجربته الإنسانية في الحياة خلال الفترة التي سبقت ورافقت تعيينه بمنصب وزير خارجية العراق، لحين وفاته في مدينة الرباط المغربية عام 1974 أثناء حضوره قمة وزراء الخارجية العرب التي عقدت هناك. إن القصد من هذه الحلقات هو تقديم سجل أمين، من خلال حوادث يومية بسيطة، لحقبة من الزمن تمتد منذ مطلع الخمسينات لغاية عام 1974.

 

اليوميات

تنطلق معظم حلقات هذه اليوميات من دارنا، الواقعة في جانب الرصافة من بغداد، التي كانت قد شيدت عام 1966، علي أرض سكنية اشتراها والدي من الدولة في اواخر الخمسينات أو مطلع الستينات عندما كان يعمل موظفا في وزارة الارشاد العراقية. كان شاذل طاقة قد هاجر الي بغداد من الموصل عام 1958 ليعين موظفا بالوزارة المذكورة بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958. لم يكن أبي حينها منتميا إلي أي حزب سياسي، بل كان اديبا وشاعرا عرف عنه توجهاته القومية. تعرض شاذل طاقة للسجن مرتين، علي الاقل، الاولى عام 1959 بسبب توجهاته القومية. سافر أبي بعد ذلك إلي بيروت عام 1962 لإتمام دراسته العليا في الجامعة الأمريكية في بيروت، غير انه سرعان ما عاد الى العراق بعد عام واحد أو أكثر اثر تعيينه مديرا عاما لوكالة. لكن حكم البعث في العراق لم يدم أكثر من تسعة أشهر حيث وقع انقلاب عسكري تمخض عن فصل أبي من العمل، وتعرضه للسجن بعد ذلك التاريخ.

تبدأ القصة دائما، كما كانت ترويها والدتي (أم نوّاف) رحمها الله عندما جلبت الشاي في شتاء يوم بارد من عام 1964 إلي (الأسطة أبو نجم) الذي كان يقوم ببعض التصليحات في دارنا التي كنا قد استأجرناها في منطقة راغبه خاتون الواقعة في حي الاعظمية. عندما توجه (الأسطة) بالسؤال عن سر سكنها في دار مؤجرة، أجابته أم نوّاف بأن لدى الاسرة قطعة أرض سكنية ولكن (أبا الأولاد) مفصول لاسباب سياسية ولا يتوفر ما يكفي من المال لبنائها.أجاب (أبو نجم) إن الأمر بمنتهي البساطة، فما على والدتي سوي تهيئة بضع عشرات الدنانير لحفر أسس الدار وحال وصول الأسس إلى مستوى معين (الباتلو)، تستطيعون فيما بعد أن تأخذوا قرضا من المصرف العقاري، فلا بد أن تفرج الأمور حينئذ ويعود زوجك إلي العمل.

دخلت أمي علي والدي الذي كان نائما فايقظته وروت له الحكاية، فاجابها والدي بأنها تعلم بأنه لا يملك قرشا واحدا. غير أن والدتي، المنحدرة من أسرة موصلية ميسورة الحال، كانت مقتنعة تماما بالفكرة فقامت ببيع ما لديها من حلي ومدخرات واقنعت والدي بالبناء. رغم تواضع البناء، إلاّ أن أمي، بل الأسرة بأكملها، كانت فخورة جدا بالدار، التي كنا نراها، طيلة أربعين عاما أروع قصر ممكن أن يعيش فيه انسان. غير أن الزوار لم يروا الدار كما نراها نحن، وغالبا ما كانوا يستغربون أن تكون هذه الدار الصغيرة لوزير خارجية العراق، حتي أن زوجة سفير الاتحاد السوفيتي في بغداد التي جاءت إلي دارنا للتعزية بوفاة والدي عام 1974، وبعد أن تلفتت شمالا ويمينا في الدار، سألت والدتي إن كانت تلك الدار قد هيئت مؤقتا لاستقبال المعزين، قائلة.. لا بد أن لكم دارا غير هذه. أجابتها والدتي بفخر كبير بأن هذه هي دارنا وليس لنا سواها. غير أن أمي في مثل هذه الحالات كان يحلو لها دائما أن تروي لزوارنا العراقيين قصة الدار تلك مبتدئة بجملتها المشهورة (مع كل طابوقة وضعت في هذه الدار، كانت هناك دمعة). شهدت دارنا تلك عمليات ترميم وتوسيع عديدة بدأتها أمي ثم اتممتها أنا، لحين انتهاء ذلك الحلم الجميل مع احتلال العراق عام 2003 وهجرة معظم أهل الدار. غير أن قصة الترميم الأول كانت أبرزها، إذ بعد مجيء حزب البعث إلي السلطة عام 1968 وتقلد والدي مناصب عدة من بينها سفيرا للعراق لدى الاتحاد السوفيتي، عاد أبي من موسكو عام 1971 حيث عين وكيلا لوزارة الخارجية. وجدت والدتي أن بيتنا الصغير ذي غرفتي النوم لم يعد يتسع لجميع أفراد الأسرة، سيما وأن جدتي وعمتي وعمي كانوا سيلتحقون بالأسرة قريبا. قررت والدتي، رغم اعتراضات أبي المتكررة، تشييد غرفتين أخريين لتضاف إلي الدار. وقد تلخصت اعتراضات والدي بقوله (إن الناس ستشتمنا) وستقول أن هذا الرجل حالما تقلد منصبا في الدولة بدأ بتشييد غرفتين إضافيتين. غير أن اعتراضات أبي لم تصمد أمام إصرار والدتي فهي تعرف أن الدار لم تعد تتسع لجميع أفراد الأسرة سيما وأن البناء الجديد لن يتعدى تلك الغرفتين. وهكذا رضخ أبي علي مضض، لكنه لم يترك فرصة زيارة الأقارب والأصدقاء، ومن بينهم، صديقاه، الشاعر الاستاذ سالم الدباغ والأديب الدكتور هاشم الطعان رحمهما الله عصر كل جمعة دون أن يصطحبهما خارجاً ويطلب منهما النظر بتمعن إلى الدار عن بعد ويسألهما نفس السؤال كل أسبوع: هل تعتقدان بأن أحدا سيشتمني إذا ما رآني أشيد تلك الغرفتين؟ وتأتي التطمينات من الرجلين اللذين يؤكدان له بأن داره ليست أكبر من دار أي منهما.

وهذه هي الحادثة الوحيدة التي سمح فيها والدي بتوسيع الدار اثناء حياته، حيث اصطدمت كل محاولات أمي بعد ذلك لاجراء توسيع أو تحوير آخر هنا أو هناك برفض قاطع منه قائلا "سيشتمنا الناس". وهكذا بُنيت دارنا التي مكثنا فيها نحو أربعين عاما، عشنا فيها السراء والضراء، ولم نهجرها إلا اضطرارا.

لم يمض أبي، شاذل طاقة، رحمه الله، أكثر من عامين في منصبه كسفير للعراق لدي الاتحاد السوفيتي حتي نقل إلي بغداد ليشغل منصب وكيل وزارة الخارجية، ومن ثم ليصبح وزيرا لخارجية العراق. حدث ذلك في عام 1971، إذ أذكر أنه قبل عودته للالتحاق بمقر عمله الجديد في بغداد في السنة المذكورة، سافر من موسكو إلي ألمانيا الغربية، حينها، حيث اشتري سيارة فرنسية نوع بيجو 504 خضراء اللون بوساطة من خالي، رحمه الله، الذي كان قد هاجر إلي ألمانيا في أواخر خمسينات القرن الماضي وعمل في تجارة السيارات. وسبب توسط خالي في شراء السيارة، هو أن والدي، لم يمتلك المبلغ الكافي لشراء سيارة جديدة، فسفراء تلك الأيام ليسوا كسفراء اليوم، ولذلك اختار له خالي سيارة يوصفها تجار السيارات بأنها (أخت الجديدة) عاد بها إلي بغداد وبقيت في عهدتنا إلي ما بعد وفاته عام 1974. كانت سيارة البيجو بحالة ممتازة، وكيف لا، فالوسيط كان خالي ذو الخبرة الواسعة في تجارة السيارات، وكان أبي يستخدمها في أوقات الدوام الرسمي وما بعد الدوام. والحقيقة، فأن والدي نادرا ما استخدم سيارة من سيارات الوزارة الرسمية، ولكني اذكر أن سائقا من وزارة الخارجية كان يستخدم سيارتنا الشخصية كلما كانت والدتي، رحمها الله، تطلب شيئا ما يخص استخداماتنا العائلية، حيث لم يكن استخدام السيارات الرسمية للأغراض الشخصية أمرا شائعا، وبالتأكيد فهو أمر يحاسب عليه القانون. وكان لسيارة البيجو الخضراء هذه قصص وحكايات، إذ أذكر أن والدي كان متوجها يوما إلي مقر الوزارة في تشرين الأول من عام 1973 إبان حرب الأيام الستة بين العرب والإسرائيليين، وكان مارا من أمام وزارة الدفاع، ولمن لا يعرف أين تقع وزارة الدفاع في بغداد، فهي – كما تقول الطرفة العراقية المعروفة، مقابل لبن أربيل الشهير- حيث استوقفه شرطي المرور.

يروي والدي أنه لم يرّ إشارة شرطي المرور، ولم يدرك أن الشرطي أمرّ السيارات بالتوقف إلاّ بعد أن تجاوزه والدي وسمع صافرة الشرطي تطالبه بالتوقف. كان رجال شرطة مرور في تلك الأيام يحملون عصا خشبية صغيرة في نهايتها لوحة خشبية مستديرة مصبوغة باللون الأحمر، علي ما أذكر، في وسطها عبارة (قف) يشهرها الشرطي بوجه السيارات كلما أراد منهم التوقف. قال أبي إنه كان بمفرده في السيارة ولم يكن مدركا تماما لما يجري في الشارع فقد كان منشغلا بسماع نشرة الأخبار ولم يلحظ الشرطي ولا إشارته، ولكنه توقف بعد سماعه الصافرة. لا بد وأن شرطي المرور كان غاضبا لتجاوز إشارته، لكن ما شفع لأبي أنه توقف بعد سماعه الصافرة. سأل الشرطي والدي: ما هي مهنتك؟ فأجابه أنه يعمل وكيلا لوزارة الخارجية. طلب الشرطي من والدي إجازة السوق والهوية، وبعد أن أطلع عليهما قال له بأنه ارتكب مخالفة مرورية وعليه سيحتفظ بإجازة سوقه وعلي والدي مراجعة نقطة السيطرة المرورية في القاطع في وقت لاحق. شكره والدي وواصل رحلته إلي وزارة الخارجية. لدى وصوله إلي مركز الوزارة، طلب والدي من مفوض مرور كان منسبا في وزارة الخارجية أن يراجع نقطة سيطرة المرور للاستفسار عن مصير إجازة السوق. وكان مفوض المرور المذكور معروفا في شوارع بغداد في حينه بدراجته البخارية الشهيرة، وهو مفوض المرور الوحيد المنسب إلي وزارة الخارجية، حيث كانت دراجته البخارية غالبا ما تكون في مقدمة مواكب الوفود العربية والأجنبية التي تزور بغداد وتنطلق بمواكب رسمية في شوارع المدينة. ذهب المفوض المذكور إلي شرطي المرور مستفسرا عن إجازة سوق والدي، فقال له الشرطي بأنها لازالت معه. فعاتبه المفوض مستفسرا منه عن سبب سحب إجازة سوق والدي سيما وأن الأخير اعتذر منه وانه وكيل وزارة الخارجية العراقية. أجابه شرطي المرور بأنه بالفعل سمع من والدي بانه يعمل وكيلا لوزارة الخارجية ولكنه ظن أن وكيل الوزارة ليس سوى وكيل لمصلحة المبايعات الحكومية، أي بالمفهوم العراقي، صاحب بقالة لبيع المنتجات الغذائية.. وعادت إجازة السوق إلي والدي.. رحم الله تلك الأيام

 

الحلقة الثانية

اتسمت الفترة التي عاش فيها والدي بعلاقات جمعت بين عدد من الأدباء الموصليين ممن انتموا إلي حركات سياسية مختلفة ولكنهم واصلوا علاقة صداقة شخصية حميمة قلّ نظيرها في عالمنا العربي. أتحدث تحديدا عن علاقة صداقة جمعت بين ثلاثة أو أربعة أدباء عراقيين ينتمون إلي حركات سياسية مختلفة ورد ذكرهم في سياق الحديث عن مجموعة شعرية صدرت لهم في الخمسينات. كان والدي الشاعر شاذل طاقة والذي أصبح فيما بعد وزيرا لخارجية العراق في عهد حزب البعث العراقي لحين وفاته عام 1974، واحدا منهم بالإضافة إلي الأديب والشاعر الدكتور هاشم الطعان، أحد الكوادر البارزة للحزب الشيوعي العراقي حينئذ والذي توفي عام 1981، والأديب والروائي اليساري الأستاذ سالم الدباغ، والاستاذ الشاعر يوسف الصائغ رحمهم الله جميعا.

 

قيّم مرحلة وأخلاقها

تميزت العلاقة الأخوية الفريدة التي ربطت بين هذه النخبة من الأدباء والشعراء بسموها فوق الاعتبارات السياسية الضيقة التي غالبا ما عكرت صفو العلاقات بين الأخ وأخيه. وعلي الرغم من التوجهات السياسية المتضادة لهؤلاء الأدباء، فقد حافظوا علي علاقات ود متينة كان قاسمها المشترك حب العراق والإخلاص له. كان جميعهم قد تعرض للسجن والاعتقال والطرد من العمل بسبب انتمائه السياسي أبان فترات كان ربما بعضهم طرفا في السلطة التي قامت بالاعتقال. غير أن تلك الاعتقالات لم تؤثر علي علاقاتهم الشخصية وعلي إخلاصهم لبعضهم الآخر، والاهم من هذا وذاك، علي إخلاصهم وحبهم للعراق. وكانوا من دون أدني شك أمناء علي القيّم التي نشأ عليها جيل ساهم في بناء العراق. لقد التقت هذه المجموعة من الأدباء في دارنا خلال الفترة الواقعة بين الأعوام 1971-1974 حيث جلسات الشعر والأدب والتي تختلط عادة بالسياسة ككل جلسات العراقيين. كما لم تغب عن تلك الجلسات الهموم الشخصية ومشاكل الحياة الأخري.

 

جلسات الأدب

وعودة إلي جلسات يوم الجمعة فقد كانت بحق حدثاً أدبياً مميزا حيث يجتمع أصدقاء والدي من أدباء وشعراء وعلي رأسهم الدكتور الطعان والأديب والشاعر يوسف الصائغ في بعض الأحيان. كان ذلك بين الأعوام 1971 و1974 حيث كنت قد بلغت في حينها الثالثة عشر من عمري ويؤذن لي بالجلوس بينهم في بعض الأحيان. وكانت والدتي رحمها الله تحضر بعضا من هذه الجلسات الأدبية حيث كان يعرف عنها ولعها بالشعر والأدب. كان أبي من المعجبين بالأديب والشاعر هاشم الطعان وكان يردد دائما أن الطعان من أفضل النحويين الذين أنجبتهم الأمة العربية. وفي إحدي تلك الجلسات دار حديث مطول عن الشعر والأدب والسياسية ومن بينها موقف الحزب الشيوعي من القضية الفلسطينية، وما إلي ذلك من هموم سياسية سادت تلك الحقبة. كما تحدث المرحوم الطعان في الأدب العربي فأجاد كعادته ونال إعجاب الحضور. فالتفتت إليه والدتي قائلة له يا أبا هيثم لقد أبدعت في عرضك للموضوع ولكني والله أشعر بالأسي بأن مثل هذا العلم الزاخر يأتي من رجل شيوعي. فالتفت الطعان إلي والدي ضاحكا ومستفسرا "هل أعد ما قالته أم نوّاف إطراءً أم ذماً". فضحك الجميع وانتهي النقاش بأن انطلق احدنا لجلب مزيد من القهوة. كان الطعان رحمه الله مناضلا شيوعيا صادقا في إخلاصه للعراق توفي مخلصا لبلاده وقيمه بيدّ أني أحسب أن لم يدر في خلده يوما ما أن يُحتل العراق ويأتي سفير أمريكي إلي بغداد ليصدر أمرا بتعيين السكرتير العام للحزب الشيوعي العراقي عضوا في مجلس الحكم لمساعدة الأمريكان علي تكريس الاحتلال للبلاد.

 

تربية الأجيال

ترك شاذل طاقة عمله كوكيل لوزارة الإعلام عام 1969 والتحق بعمله الجديد كسفير للعراق لدي الاتحاد السوفيتي في عام 1969. كنت من بين عدد من أفراد الأسرة التي انضمت إلي والدي في تلك السفرة، وهكذا التحقت بالصف الأول المتوسط في المدرسة العربية في موسكو بين عامي 1969 و1971. لكن سرعان ما نقل والدي إلي بغداد، في عام 1971، ليشغل منصب وكيل وزارة الخارجية، ومن ثم وزيرا للخارجية. وهكذا كان عليّ أن انتقل إلي مدرسة عراقية أواصل فيها دراستي في الصف الثالث المتوسط. كانت متوسطة فلسطين للبنين القريبة من دارنا، المكان الطبيعي الذي يجب أن التحق به. ولأن والدي كان مشغولا طيلة وقته في العمل، فقد طلب مني أن أذهب لمقابلة مدير المتوسطة شخصيا لغرض إتمام معاملات التسجيل. استفسرت من أصدقائي في الحي عن المدرسة المذكورة ومديرها فقالوا لي أن مديرها شديد للغاية ويجب أن أكون حذرا وأتجنب غضبه، وأنه عندما يغضب، وكما يقول العراقيون، (لا يعرف أباه). كان لا مناص من الذهاب إلي المدرسة علي أية حال، والخوف يملأ قلبي، ولكني كنت أصبر نفسي بقناعة راسخة أن الله عز وجل خلق مدراء المدارس غاضبين مقطبي الجبين دائما.

كان عمري حينها ثلاثة عشر عاما، وكانت الموضة المتبعة في الغرب بين الشباب، سيما المراهقين من أمثالي، الشعر الطويل (البيتلز) تيمنا بالفريق الغنائي البريطاني الشهير. ذهبت في ذلك الصباح إلي متوسطة فلسطين لغرض التسجيل، بناء علي أوامر والدي، ولم أكد أصل باب غرفة المدير حتي ركض إليّ (الفراش) وقال لي: يقول لك المدير بأنه لن يسمح لك بالدخول. وأضاف قائلا بلهجة أبوية: يا بني هذا المدير شديد المراس وحاد الطباع فانصحك ان تذهب وتحلق شعرك قبل مقابلته لأنه لن يقبلك علي هذه الشاكلة. لا أدري كيف تمكن المدير من رؤيتي قبل دخول مكتبه، ولكني توجهت مسرعا والخوف يعتريني إلي أقرب حلاق في الحي، وبعد دفع مبلغ الحلاقة في حينه البالغ ربع دينار عدت في غضون ثلاثين دقيقة إلي المدير بهيئتي الجديدة. استقبلني المدير بنظرة رضا أبوية موزونة بطريقة حسابية معقدة شبيهة بمعادلات مادتي الجبر والرياضيات اللتين كنت اكرههما. تم تسجيلي في الصف الثالث المتوسط وبقيت سنة كاملة في المتوسطة المذكورة ولكني كنت اخضع بشكل دائم لمراقبة المدير الشديدة، وكنت أتلقي دائما أشد العقوبات لأتفه المخالفات، في حين كنت أري زملائي يفلتون في حالات عديدة من العقاب. علي أية حال، كانت سنة واحدة وسرعان ما انقضت، حيث اجتزت الدراسة المتوسطة بنجاح لأتحول بعدها إلي الدراسة الثانوية.

بقيت قسوة المدير وشدته معي، عالقة في ذهني سنوات طويلة، ولكني بالحقيقة، رغم العقوبات الشديدة والتي كنت أراها في بعض الأحيان غير مبررة أو مبالغ بها، لم أشعر أن الرجل كان يعاديني بل كنت اشعر بنوع من الرعاية الأبوية المفرطة بالشدة. علي أية حال، مضت السنون وتخرجت من كلية الآداب، ثم تعينت في وزارة الخارجية. وفي أحد الأيام التقيت في حيّنا بأحد زملاء الدراسة المتوسطة بعد فترة غياب طويلة وأخبرني أنه في الحي لزيارة مدير مدرستنا المتوسطة القديمة الذي كان قد تعرض لحادثة اصطدام سيارة تسببت في كسر ساقه. سألني إن كنت أرغب بالمجيء معه لزيارة المدير فوافقت علي الفور. وهكذا ذهبنا سوية إلي دار المدير الذي استقبلنا أطيب استقبال. سألني المدير عن الكلية التي تخرجت منها وعن عملي وعن أسرتي. ثم بدأ يتحدث عن الفترة التي كنت فيها طالبا في مدرسته، موجها الحديث لي: ألم تشعر بأني كنت شديدا معك. فأجبته بحرج وبكلمات مجاملة بأني لم اشعر بذلك، مضيفا إلي ذلك بعض عبارات المديح التي لم تخرج بكل تأكيد من صميم القلب. ضحك المدير وقال لي أريد أن أروي لك الحقيقة، فها أنت قد كبرت، وقد توفي والدك رحمه الله منذ سنوات، فلا بد لك أن تعلم حقيقة ما جري. مضي قائلا، يجب أن تعلم الآن بأني كنت علي معرفة مسبقة بوالدك، وقد اتصل بيّ قبل مجيئك للتسجيل في مدرستنا وطلب مني أن أكون أكثر شدة معك من الآخرين. أضاف المدير، وسط دهشتي، قال لي والدك بأنه لا يريد لأبنه أن يعامل معاملة أبن مسؤول فتسوء تصرفاته وتفسد طباعه. ساد صمت بعد ذلك.. تمنيت له الشفاء وشكرته علي رعايته تلك وغادرت المكان.

 

باصات بغداد الحمر

لم يُسمح لي علي الإطلاق بالصعود إلي سيارات والدي الحكومية يوم كان وكيلا للوزارة، وضوعف التشديد بعد أن أصبح وزيرا للخارجية عام 1974. كنت طالبا في الصف المنتهي من الدارسة الثانوية حينما كان والدي يشغل منصب وزير الخارجية. كانت مدرستي، إعدادية الرسالة للبنين، تقع في مدخل شارع الرشيد العريق، حيث يعرف ذلك الجزء من الشارع باسم (الحيدرخانة)[1]. وبسبب حرص والدي علي أن أنشأ وسط حياة طبيعية بعيدة عن الفساد، كنت اضطر صباح كل يوم إلي انتظار حافلة نقل الركاب الحكومية، التي كانت تمر من شارع، ليس بعيدا عن دارنا، يدعي شارع (صفي الدين الحلي) قرب الجامعة المستنصرية، كي تنقلني مع جمع من فتيان وفتيات الحي الجميلات إلي (ساحة الميدان) في بغداد لنواصل بعدها السير كلا الي مدرسته حيث كان طلبة الاعداية المركزية العريقة يستقلون الحافلة ذاتها بالاضافة الي فتيات اعدادية البنات في المنطقة ذاتها. كنت اتمني أن يراني الطلاب، سيما الطالبات، وأنا اذهب الي المدرسة بسيارة حكومية فارهة لكن تلك الرغبة لم تتحق إطلاقا، وعوضا عن ذلك فقد عرفني جميع جباة خطوط حافلات نقل الركاب ذات الارقام (61) و(71) باسم (أبن الوزير) وارتبطت بعلاقة مودة مع هؤلاء الجباة الذين كانوا يتسمون بالطيبة العراقية المعتادة. وهكذا أمضيت الدراسة الثانوية وانا اتنقل بين البيت والمدرسة بواسطة حافلات نقل الركاب الحمراء الجميلة ذات الطابقين. وكان لاستخدام الحافلات تلك طقوس وتقاليد يجب مراعاتها، وعلي رأسها عدم مضايقة الجابي بتصرفات أو طلبات غير منطقية. ولمن يذكر تلك الحافلات، كانت عبارة (ساعد الجابي بأصغر نقد كاف) تستقبلك حال صعودك الحافلة. وكان من يرغب أن يفلت من دفع الاجرة أو يتعمد استفزاز الجابي، ما عليه إلاّ أن يبرز ورقة نقدية من فئة كبيرة يصعب علي الجابي تصريفها. كما يتعين علي ركاب الحافلة ان يتحلوا بالتواضع دائما، وهذا ما حدث معي في احد الايام عندما استقليت حافلة كان علي متنها جاب جديد لم اشاهده من قبل حيث قمت بمد اصبعي علي احد المقاعد لأتأكد من نظافته وبعد أن وجدته مغبرا تركته وجلست علي مقعد آخر أكثر نظافة. فما كان من الجابي إلا أن صرخ من بعيد مستهزئا (العفو.. دكتور!!). تظاهرت بأن الكلام ليس موجها إليّ رغم معرفتي بأن الحافلة كانت فارغة، مستندا الي الحكمة القديمة (عظموا أنفسكم بالتغافل). عدت يومها إلي الدار وأنا اشتعل غيضا وحنقا علي والدي وعلي والدتي، وحال رؤيتي والدتي قصصت عليها ما حدث لي والإهانة التي تعرضت لها من قبل جابي حافلة نقل الركاب مطالبا بوضع حد لهذه الإهانات وأن يسمح لسائق الوزارة أن يقلني بسيارتنا الشخصية إلي الأماكن البعيدة. غير أن غضبي لم يقابل سوي بالضحك والتهكم علي ما أصابني. عدت صبيحة اليوم التالي إلي استخدام الحافلة، ولحسن حظي، لم أشاهد ثانية ذلك الجابي الذي سخر مني. بقيت مسألة السائق والسيارة الحكومية راسخة في ذهني حتي أني بعد نحو ثلاثين عاما علي تلك الحادثة وعندما عملت قائما مؤقتا بالأعمال في بعثة العراق في باريس قبل الاحتلال، تصرفت بصورة غير إرادية مع سائق السفارة وكأنه غير موجود. لم يعرف أولادي بأن لديّ سائقا في السفارة كان من الممكن أن يستعينوا به في تنقلاتهم، بل أن السائق نفسه سألني أكثر من مرة عن سر عدم استعانتي به. كنت دائما أشكره علي إبداء رغبته الجدية بتقديم الخدمة في العمل، ولكني كنت أجيبه بأني سأستعين به حال شعوري بالحاجة إلي خدماته. غير أن الحاجة إلي خدماته تلك لم تبرز إطلاقا حتي آخر ساعة عمل قضيتها في وزارة الخارجية حيث وقع العراق تحت الاحتلال وشعرت بأنه لم يعد من اللائق بسمعة والدي أولا، وسمعتي ثانيا، أن استمر في العمل في مؤسسة دبلوماسية تابعة لدولة واقعة تحت احتلال أجنبي.

(1) اكتظت منطقة الحيدر خانة في شارع الرشيد بمحلات ومقاهي شكلت معالم بارزة في تاريخ المدينة، من بينها، علي الجهة اليسري من الشارع باتجاه الباب الشرقي كل من المصور (السوداني) ثم محلات (كعك السيد)، وعيادة أحد الأطباء العراقيين، أما الجهة الثانية من الشارع التي تبدأ من الفرع المؤدي إلي (القشلة) فمنها مقهي (الزهاوي) العريق، ثم مقهي (حسن عجمي)، ثم شربت (الحاج زبالة)، ثم محلات صغيرة للروافين وهكذا لغاية الفرع المؤدي إلي سوق المكتبات (سوق السراي).

 

الحلقة الثالثة

شاذل طاقه وسائقه

لم يكن لوكلاء الوزارة في العراق في السبعينات حمايات خاصة أو مواكب سيارات أو مرافقين، ولا أعرف في الحقيقة ما هو عليه الحال اليوم في العراق لإبتعادي عن البلاد منذ عشر سنوات. كان لدى شاذل طاقة سيارة حكومية واحدة مع سائقين يتناوبان العمل معه. وكان غالبا ما يقود سيارته الشخصية بنفسه في الذهاب والعودة من مكتبه، وفي أحيان عديدة كان سائقه الحكومي يجلس إلي جواره. وقد تعودنا في الأيام التي يعود بها والدي ظهرا إلي البيت لتناول الغداء أن تقدم له وجبة طعام بسيطة يتناولها في كثير من الاحيان بصحبة سائقه علي مائدة واحدة. وكنت في بعض الأحيان انضم إليهما علي الرغم من أن بقية أفراد الأسرة كانوا يتناولون الغداء قبل مجيء والدي لسبب بسيط هو أننا لم نعلم إن كان سيعود لتناول الغداء معنا، وإن عاد بالفعل لا نعرف متي سيكون موعد ذلك، فلم تكن هناك هواتف نقالة لمتابعة تنقلات الأشخاص دقيقة بدقيقة كما هو عليه الحال اليوم. تقوم والدتي عادة بتهيئة الطعام لوالدي لأن دار وكيل الوزارة، ودار الوزير فيما بعد، لا يوجد فيها أي خادم أو خادمة أو سفرجي أو شيء من هذا القبيل. وفي عام 1974 وبعد صدور أمر تعيين شاذل طاقة وزيرا لخارجية العراق، استبدلت سيارته بسيارة أخري كانت أحدث طرازا (شوفرليت بيضاء اللون). ولكن بقي وزير الخارجية شاذل طاقة يمتلك سيارة حكومية واحدة، مع سيارته الخاصة التي تحدثت عنها في حلقات ماضية.

بندقية الحارس الليلي

غير أن مشكلة برزت في البيت تتعلق بالحماية الأمنية. فهمت من حديث والديّ بأن جهات أمنية تصر علي وضع ترتيبات أمنية محددة، علي رأسها، وضع نقطة حراسة علي باب دارنا لحماية أبي بوصفه وزيرا للخارجية. وقد لاقت هذه الفكرة استياءً وغضباً من أبي وأمي، علي حد سواء، رغم أني رأيتها فرصة مناسبة كي يعلو شأني بين فتيان وفتيات الحي. رفض والدي فكرة نقطة الحراسة الثابتة عند باب الدار، غير أنه وبعد إصرار الأجهزة الأمنية وافق علي مقترحين آخرين: أن يرافقه في سيارته الرسمية، فقط، رجل أمن يجلس في المقعد الأمامي مرتديا ملابس مدنية، وكان مفوضا في مديرية الأمن على ما اعتقد. أما بالنسبة لحماية الدار، فبعد مفاوضات معقدة، لقيت فكرة، لم أعد أذكر من اقترحها، قبولا مترددا من قبل والدتي. الفكرة كان مفادها أن معظم أحياء العراق السكنية يجوبها حارس ليلي بعد منتصف الليل يسمي في اللهجة البغدادية (جرخجي) يطلق صافرته كل ما مرّ بأحد أزقة الحي ليرعب اللصوص ويشعرهم بأن الحارس الليلي مستيقظ. ويعرف العراقيون أيضا بان الحارس الليلي ذاك لم يرعب في حياته لصا، بل كان (الجرخجي) موضع تندر دائم بين الأهالي. تضمن المقترح السماح لهذا الحارس الليلي بأن يأتي حال انتهاء جولته بعد منتصف الليل للبقاء في مدخل البيت الخارجي حتي انتهاء فترة الحراسة الليلية. وهكذا بدأ (الجرخجي) المجيء بعد منتصف الليل إلي دارنا والنوم عند مدخل الدار علي أن يغادر الدار فجرا. وصدف بعد أسبوع من هذه الممارسة الكوميدية أن عاد عمي رحمه الله إلي الدار في ساعة متأخرة من الليل فوجد الحارس نائما وبندقيته مركونة إلي جواره فسرق بندقيته وخبأها داخل الدار. كانت محنة الحارس كبيرة عندما استيقظ فجرا ولم يجد بندقيته، الأمر الذي دفع والدتي إلي الإشفاق عليه وطلبت من عمي أن يعيد البندقية إليه، وطلبت من والدي، في الوقت نفسه، أن يطلب ممن بعث لنا (الجرخجي) أن يعيده من حيث أتي لأن أسرة وزير الخارجية غير قادرة علي تأمين الحماية اللازمة له. وهكذا توقف الجرخجي عن إزعاجنا واستمرت حياتنا العائلية طبيعية دون أية منغصات فلا حماية ولا رجال أمن طيلة بقاء والدي في منصبه الوزاري لغاية يوم وفاته.

شاذل طاقة.. وفلسطين

نشأ شاذل طاقة، كبقية أبناء جيله، في أجواء كان العراق يرزح فيها، كباقي أجزاء المنطقة، تحت وطأة الاحتلال البريطاني. وكانت المشاعر القومية المناهضة للاستعمار قد استعرت في أواخر ثلاثينات ومطلع أربعينات القرن الماضي مما ترك اشد الاثر في نفوس العراقيين في تلك الحقبة. وهكذا، فان عددا غير قليل من القصائد التي نشرها شاذل طاقة في النصف الأول من القرن الماضي تناولت قضايا قومية تغنت بالمقاومة الباسلة للشعب الجزائري خلال حرب التحرير، وأخرى تناولت المأساة الفلسطينية والذبح والتنكيل الذي أصاب اشقائنا في فلسطين. وفي احدي الحقب السياسية التي مرت علي العراق في أواخر الخمسينات، عندما كان الحديث عن القومية العربية من المحرمات، دخل شاذل طاقة السجن بسبب قصائده التي تغنت بالعروبة بحجة انتمائه الي احد الاحزاب السياسية المحظورة، غير أنه لم يكن قد انتمي بعد إلي أي حزب سياسي. وهناك، في سجن الكوت، عام 1959، كتب عددا من القصائد التي تغنت بالعروبة وبالحلم العربي وبالامل الذي كان يحدوه، و (بالغد الزاهي السعيد) الذي لم يكتب له أن يتحقق حتي يومنا هذا. هذه المشاعر لم تكن علي مستوي الفكر والأدب فحسب، بل حتى علي صعيد التعامل اليومي في حياته الشخصية. ففي حادثة وقعت له عندما كان وزيرا للخارجية حيث كان يقود سيارته الشخصية مع صديق له، وبدون سائق، علي عادته، إذ اصطدمت بهما سيارة كانت قادمة في اتجاه مخالف للسير. ترجل والدي من السيارة متوقعا أن يعتذر سائق السيارة المخالفة عن الخطأ الذي ورد منه غير أنه فوجئ بكلام جاف من صاحب السيارة، الذي ربما لم يعرف أيضا انه كان يتحدث إلي وزير خارجية العراق. استفسر أبي منه عن طبيعة عمله، فأجاب السائق بانه كاسب. غير أن أبي لاحظ أن لهجة المتحدث لم تكن عراقية صرفة مما دفعه للاستفسار عن جنسيته، فأجابه الاخير انه لاجئ فلسطيني. فما كان من أبي إلاّ أن ابتسم بوجهه وقال له أن بوسعه أن يغادر. ولما استغرب الصديق تهاون أبي مع الرجل الفلسطيني، أجابه أبي: أنه لاجئ فلسطيني ولا بد أنه قد عاني ما عاناه في حياته. والحقيقة، فأن حب العراقيين لأشقائهم الفلسطينيين العرب لا يختلف كثيرا عن مشاعر التعاطف التي عبر عنها أبي خلال تلك الحادثة الصغيرة. غير أن أبي، بطبيعة الحال، لم يكن ليدرك ما قد خبأته الأقدار للعراقيين من نفس المصير الذي لاقاه الفلسطينيون عندما سلبت ديارهم وتعرضوا للتشريد. بيدّ أني أبقي حتي هذا اليوم عاجزا عن فهم الدوافع التي قادت الأحزاب التي جاءت مع المحتل الأمريكي إلي العراق للتنكيل باللاجئين الفلسطينيين المقيمين بالعراق وقتلهم، ووضع المتبقين منهم في خيام اللاجئين علي حدود العراق لسنوات أعقبت الاحتلال. كيف يمكن أن يستوي هذا التصرف مع حجم الألم والتعاطف الذي شعر به العراقيون في الانتفاضات الفلسطينية التي وقعت في الأراضي المحتلة، والدموع التي انهالت يوم استشهاد الطفل محمد الدرة، بل الدماء التي نزفها العراقيون في فلسطين وسوريا ومصر دفاعا عن فلسطين. ولعل المفارقة هي أن الحديث عن العروبة في العراق أواخر خمسينات القرن الماضي كان يعد سبة وتهمة تقود بصاحبها إلي السجن، غير أن الأمور اليوم اختلفت إذ صار الانتماء إلي العروبة في العراق يفضي إلي الموت.

 

يا أهل ودي.. يا أحبتنا/ بالرملتين.. تصرّمت حقبُ
ومضي الزمان كما يشاء بنا/ وتكشفتْ عما بنا حُجُبُ
وغزا اللصوص الأرض واغتصبوا/ وتحدثتْ عن عارنا النُصُب
وذكرت "درويشا" وقافيةً/ من قلبه العربي تنسكبُ..
فتخفض آسره.. تؤرقه/ وتروح في الظلمات تلتهبْ
وتبيت "فدوي" رهن غربتها/ مع غرسة الزيتون ترتقبُ..
وقضت "سميرة" بعدكم شجناً/ هَنَّا.. وأسكت قلبها الغضبُ..
ومضَي الرجال بها إلي جَدَثِ/ ناءٍ عن الأرض التي طلبوا..
فتجّهمت بالغيظ قافيتي/ وطوت شراع خيالها النُوَبُ..
يا أهل ودي.. يا رفاق دمٍ/ زاكٍ يسيلُ فينضجُ العنبُ
إنا، وإن شط المزار بنا، وازّاحمت من حولنا الكُرَبُ،
سيضمُّنا يوم لنا قَشِبُ/ ولسوف نفخر أننا عربُ

من قصيدة شاذل طاقة بعنوان (في الطريق إلي القاهرة ألقيت في مهرجان الشعر الثامن الذي عقد في القاهرة مع مؤتمر الأدباء في 20/3/1968).

 

من قصيدة (الدم والزيتون).. كبتها شاذل طاقة في تشرين الثاني 1967

سلاماً يا أخت يافا.. هدّنا السَفَرُ

سلاماً يا أهالينا..

سلاماً يا بيوت الحي.. حيّاك المحبونا..

حزيناتٌ ليالينا..

وليس بأفقنا نجمٌ ولا قمرٌ..

ومجدبةٌ مراعينا..

وبيّاراتنا صفراء تنتحرُ..

مقَطّعَةٌ أيادينا..

وفوق قلوبنا صَخَرُ!.

ممرَّغةٌ نواصينا…

فلا فخرٌ.. ولا عزٌ.. ولا زهوٌ.. و.. ولا كِبَرُ!

مسممة سواقينا..

وماءُ عيوننا كدِرُ..

كأنَّ عذابنا قدرُ!..

ولكننا سننتصرُ..

سننتصرُ..

لأنًّ إرادةً فينا

قضت: أنَّا سننتصرُ!.

لأنَّا، وحدنا، القدر

 

أبي والسلطة

عندما استذكر حياة شاذل طاقة، يخيل إليّ اليوم بأنه لم يطمح أن يصبح في يوم من الأيام وزيرا أو مسؤولا رفيعا في الدولة بل كان ميالا أكثر للثقافة والأدب والشعر والبحث الأكاديمي. كان ذلك واضحا منذ تخرجه من دار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) عام 1950، وتفوقه علي بقية أقرانه حيث كان الأول علي دفعته في قسم اللغة العربية. ولهذا السبب، ربما، قررت إدارة الكلية حينئذ اختياره ليلقي كلمة الخريجين في حفل التخرج الذي رعاه ولي عهد العراق في ذلك العام. وهذا ما يفسر لاحقا التحاقه بالجامعة الأمريكية في بيروت لإكمال دراسته العليا، عام 1962، بيدّ أن التزاماته السياسية حالت دون إتمامه مشروعه الأكاديمي فعاد إلي العراق بناء علي طلب الحكومة عام 1963 ليتسلم منصب مدير عام وكالة الأنباء العراقية. وعندما أتذكر اليوم ما كان يقوله أبي عن السلطة والوزارة والمسؤولية الحكومية، أزداد قناعة بأنه لم يهوى السلطة ولا نفوذها. كان أبي غالبا ما يردد أمامنا، ولم نكن نفهم في كثير من الأحيان قوله، بأن السلطة فاسدة ومفسدة، وأن كرسي الحكم ممكن أن يصيب الإنسان بالعمي، ليختم بجملته الشهيرة "أن كرسي السلطة مفسد". في هذا السياق، وبعد تسلمه منصب وزير الخارجية، زارنا أحد أقاربنا، وهو أكاديمي بارز في العراق شغل، ولا زال، مناصب أكايمية رفيعة في العالم العربي، وكان يشغل حينئذ منصب عميد احدي الكليات الإنسانية في بغداد، ليبارك لأبي منصبه الجديد. كان رد أبي علي التهنئة مباشرا، دون تردد، وعلي نحو تلقائي، بالقول له أن أرفع منصب يمكن أن يصل إليه الانسان هو أن يصبح استاذا جامعيا. بل، ربما شغف أبي بالعلم والتعلم كان الدافع الذي لم نشعر به، نحن أبناؤه، عندما واصل معظمنا في الأسرة تعليمه العالي، وتوجهت اثنتنان من شقيقاتي للتدريس في الجامعات العراقية لحين احتلال العراق. ولهذا السبب كذلك، ربما تولد لدى معظمنا، في أسرة شاذل طاقة، ازدراء المناصب الرسمية. وربما بسبب ما ورثناه عن أبي من هذا الازدراء بالسلطة ومناصبها. وبمعزل عن الدافع الوطني والأخلاقي الناتج عن الاحتلال، لم ينتابني أي شعور بالأسى أو الندم عندما تسلمت أمر فصلي من العمل بعد أكثر من 23 سنه من بسبب رفضي الالتحاق في منصب آخر في وزارة الخارجية الخدمة في الدولة

ولنفس السبب تركت شقيقاتي مواقعهن الإدارية في العراق، والتي كان البعض منها رفيعا، دون أن تلتفت أي منهن إليه أو تندم عليه

 

الحلقة الرابعة والأخيرة

آخر رحلة عمل

في خريف عام 1974 سافر شاذل طاقة متوجها إلى عدد من البلدان، متوقفا في مدن، من بينها لندن، ثم توجه بعد ذلك إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك حيث ألقى كلمة العراق في الامم المتحدة، ومن هناك انتقل الى المغرب لحضور اجتماع قمة وزراء الخارجية العرب التي عقدت في الرباط خلال شهر تشرين الأول من ذلك العام. أخبرنا سكرتيره الشخصي، السكرتير الأول حمزة الزبيدي، رحمه الله، الذي توفي بعد ذلك التاريخ بأقل من سنتين، عندما هوت سيارته من فوق أحد جبال تركيا، بأنه كان جالسا إلى جانب والدي في الطائرة عندما طلب منه شاذل طاقة أن يقرأ له من كتاب كان معه يتحدث عن الطالع.

استقبال الجثمان في مطار بغداد

فوجئ الزبيدي عندما اكتشف ما ورد في الكتاب عن نهاية قريبة لرحلة يقوم بها مواليد ذلك اليوم. علق أبي على ما ورد في الكتاب قائلا للزبيدي: إذن هي النهاية. حضر والدي عددا من الاجتماعات في الرباط ولم يرغب بتناول العشاء في آخر ليلة من عمره، ورجا سكرتيره أن يطلب من العاملين في فندق الهيلتون الذي أقام فيه أن يجلبوا له بعض الفاكهة، واراد ان يخلد إلى النوم بعد ذلك في وقت مبكر. عندما أراد سكرتيره إيقاظه في صباح 20 تشرين الأول 1974، وجده في غيبوبة، وقد توفي بعد ذلك حيث أبلغنا بأنه اصيب بجلطة دماغية تسببت بوفاته.

كان والدي قد ولد في مدينة الموصل في الثامن والعشرين من نيسان من عام 1929، وكان عمره يوم وفاته 45 عاما. حضر إلى دارنا في بغداد عصر ذلك اليوم مدير دائرة التشريفات في وزارة الخارجية يرافقة الطبيب الخاص لوالدي والذي كان يعرف تماما أن والدتي مصابة بمرض في القلب حيث أبلغوها بنبأ الوفاة. وكان عدد من اقاربي قد سمعوا النبأ قبل ذلك في نشرة أخبار الساعة الرابعة عصرا من هيئة الاذاعة البريطانية، فتوجهوا إلى دارنا. كنت خارج الدار، ولدى عودتي رأيت عددا كبيرا من السيارات متوقفة عند باب دارنا. ولا أدري كيف عرفت ومن قال لي ما حدث، لكني أذكر أن جارنا الاستاذ حمدي عبد المجيد، رحمه الله، السياسي والوزير السابق، أدخلني إلى داره وطلب مني بنبرة أبوية أن اتقبل النبأ وأن أكون رجلا بمستوى المصيبة، وأن أرعى والدتي المريضة وشقيقاتي. ذهبنا بعد يوم أو نحو ذلك، الى المطار لاستقبال الجثمان، حيث تسلمنا الجثمان وتوجهنا إلى دارنا، وبعد ذلك إلى مقبرة الأعظمية. وهناك، قام حرس الشرف بإطلاق عدد من العيارات النارية، ثم ووري جسده الثرى. عندما بدأ حفار القبور بالقاء التراب على الجثمان، تذكرت حينها قصيدة كتبها شاذل طاقة في ديوان شعري له صدر عام 1950، تحت عنوان (المقبرة الخرساء)، وتعد من بواكر قصائد الشعر الحر،  جاء فيها:

حين أقضي

وإلى المقبرة الخرساء أمضي

ويهيل الترب فوق الرمس

حفار القبول

فاذكريني

وأسألي النجم الذي يسرق ومضي

عن أحاديث الدهور

والسنين

وإذا عدت إلى القبر مساء

ورأيت الدود يسعى في الحفيرة…!

فدعيه إنه يبغي الغذاء…!

ويمني النفس آمالا كبيرة…!

فقد كنت أصخت السمع يوماً في الظهيرة…!

وسمعت الدود يشكو الجوع شكوى البائسين…!

وتهافت على الترب.. ونكست الجبين!

فإذا عدتِ إلى قبري.. فجودي بالحنان

لضحايا لم تكن تعرف معنى للأمان

ثم جودي للمسجى في الحفرة…

بين صم الصخر.. باللقيا الاخيرة!

حين امضي

والى المقبرة الخرساء امضي..

وعلى التابوت شعري!

فادفنيه مع جثماني.. بقبري..

لم يكن اعذب لحن..

غير اني..

لن اطيق القبر والوحشة وحدي!

إنه مثلي ميت.. آه لو يدفن عندي!..

 

راتب تقاعدي

بعد وفاة شاذل طاقة، تقدمت والدتي (رحمها الله) بطلب رسمي للحصول على راتب تقاعدي، وتوقعت والدتي أن يكون الراتب التقاعدي المخصص للوزير قادرا على إعانة أسرتنا الكبيرة لسنوات طويلة. فوجئت (أم نوّاف) بعد فترة وجيزة بأن والدي لن يمنح راتبا تقاعديا مخصصا للوزراء لأنه غير مستوف للشروط القانونية إذ لم يمض أكثر من ستة أشهر في منصبه كوزير، وهذا بالفعل ما كان ينص عليه القانون في حينه. كما لم تفلح والدتي باقناع الحكومة العراقية بأن وفاة والدي كانت أثناء الخدمة ومن جرائها لأسباب لم أفهمها.

#القدس_تنتصر

aliaalshami4 Alia @aliaalshami4 ·
13 مايو 2021

#القدس_ينتفض
#القدس_ينتفض
#القدس_تنتصر

Mahmoud Refaat @DrMahmoudRefaat

#عاجل | مشاهد من #تل_ابيب الان بفعل صواريخ المقاومة الفلسطينية.. أنفقت #الإمارات و #السعودية مئات مليارات الدولارات لنشر #التطبيع_خيانة وانحنى بعض الإسلاميين في #المغرب وفرطوا بشرفهم وهم منحنون للتطبيع يرقصون له ويجملوه، لكن #فلسطين الأبية حين نطقت أصغت لها كل الشعوب
#غزه_تقاوم

Reply on Twitter 1392686258816749569 Retweet on Twitter 1392686258816749569 Like on Twitter 1392686258816749569 Twitter 1392686258816749569
aliaalshami4 Alia @aliaalshami4 ·
13 مايو 2021

#القدس_تنتصر
#القدس_اقرب

نحو الحرية @hureyaksa

أموال الإمارات تحترق في الحقل الغازي الذي تم استهدافه بصاروخ من غزة.

Reply on Twitter 1392686073420132356 Retweet on Twitter 1392686073420132356 Like on Twitter 1392686073420132356 Twitter 1392686073420132356
Load More
Follow on Instagram

© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.