دول أمريكا اللاتينية النموذج والمثال
في الكثير من الأحيان وبدون أي شعور يقول الواحد منا بسبب ما وصل إليه حال الأمة من ذل وهوان ليتني لم أكن عربياً ولا أنتمي هذه الأمة التي كان لها في غابر الزمان صولات وجولات،
أما الآن فالعروبة صارت رديفة للذل والهوان والجهل والتخلف والخنوع والاستسلام، رغم أن الأمة لديها من الإمكانيات والطاقات ما يمكنها أن تفرض نفسها كأمة لها حضورها ودورها في كل القضايا المحلية والإقليمية والدولية، ولكن لأن هذه الأمة ابتليت بقيادات تتربع على عروشها حتى الممات، تشرع قوانين وتسن دساتير تلغيها وتعدلها وتعطل العمل بها وفق مصالحها وأهدافها، وليس هذا فقط بل حولت الأوطان إلى ممالك وإقطاعيات ومزارع خاصة تورثها لأبنائها وتنهب خيراتها وثرواتها وتجوع وتفقر أبنائها وتحكمهم بالحديد والنار وتقمع وتصادر الحريات وتكمم الأفواه وتحجر على العقول وتغلق باب الاجتهاد والتنوع والاختلاف خارج ما ترسمه وتحدده الأنظمة، والمعارضة الحقيقية تعلقها على أعواد المشانق وترفع لها شواهد القبور أو تجبرها على الرحيل والنفي القسري أو تبقيها في السجون والزنازين لعشرات السنيين، وترهن قرارها السياسي لقوى إقليمية ودولية خارجية وتخصي الخيار العسكري والمقاوم عن قصد وتقمع وتحاصر كل القائلين به، وتجعل كل جغرافيتها وأوطانها مستباحة من قبل أعداء الأمة، بل لا تتورع عن المشاركة مع أعداء الأمة في استباحة واحتلال أقطار عربية، كما حصل مع العراق الذي ما زال ينزف ويدمر وتقسم وتجزاً جغرافيته وتنهب خيراته وثرواته ويهجر ويقتل أبناؤه بمئات ألاف في ظل ديمقراطية الكابوي المزعومة.
كل هذا جعل أعداء الأمة يطمعون بهذه الأمة وأصبح يتطاول عليها الصغير قبل الكبير، وأخرجت من كل الحسابات حتى ما يخص قضاياها وأوطانها، وأصبحت الأمم تتعامل معها كأمة غير عاقلة وخارج التاريخ.
وبالمقابل أمة ودول في أمريكيا اللاتينية لا تمتلك من الإمكانيات والطاقات المادية والبشرية والاقتصادية عشر ما تمتلك الأمة العربية، نرى أنها تصنع نصراً وفجراً وحرية وكرامة واستقلالية اقتصادية وسياسية لشعوبها، فهذا القيادات في فنزويلا وكوبا والبرازيل وبوليفيا والبارغوي والأرجنتين وغيرها، والتي كانت تعرف بالحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية، ها هي بفعل التحامها وتعبيرها عن هموم جماهيرها ونبض الشارع فيها، تعلن تمردها وتحديها لأكبر قوة في العالم، وتدك حصون وقلاع مصاصي دماء الشعب من إقطاع وتحالفات الكمبرادور والبرجوازية الطفيلية المالية والتجارية وغيرها، وليس هذا فحسب بل تمردت على كل وصفات النهب الدولية صندوق النقد والبنك الدوليين.
فهذه الدول وقياداتها المنتخبة ديمقراطياً، ما يميزها عن قياداتنا العربية أنها لم تأتي للحكم بنسبة 99.9 %، وهذا مكنها من أن تمتلك إرادتها وقرارها المستقل، وأن تبني اقتصادها وفق استراتيجيات تقوم على العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات، وأن تدعم الفئات الفقيرة والمهمشة في المجتمع، وان تشن حرباً لا هوادة فيها على الفساد، وهذا ما جعل الجماهير تعيد القائد الثوري الفنزويلي"هوغو تشافيز" إلى الحكم عندما حاولت طعم المال والفساد والبرجوازية والرجعية الفنزويلية بدعم وإسناد أمريكي أن تطيح به، وهو اليوم يحدد علاقاته الخارجية بشكل حر وبما يدعم القيم والمبادئ الثورية التي آمن بها، فهو لا يخشى ولا يخاف عندما يعلن علناً وجهراً دعمه لإيران أو مبادراته لطرد سفير الاحتلال الإسرائيلي من فنزويلا أكثر من مرة رداً على جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق شعبنا الفلسطيني، وأكثر من ذلك يجعل من القصر الحكومي مأوى للمشردين من أبناء شعبه بسبب الكوارث الطبيعية، أما قصور حكامنا ملوك ورؤساء وأمراء ، فويل لمن يقترب منها لمسافة خمسة كيلو مترات من أبناء الشعب، فهو سيغيب خلف الشمس والى الأبد.
واليوم ودول أمريكا اللاتينية من اليسار تعلن بإرادة حرة ومستقلة في المقدمة منها البرازيل والأرجنتين وبوليفيا وغيرها اعترافها بدولة فلسطينية على حدود عام 1967، يثبت أن القيادة التي تمتلك الإرادة وتلتحم بهموم وقضايا شعبها قادرة على أن تمتلك قراراتها ومواقفها وأن تصنع المعجزات لشعوبها.
وأيضاً هذا يثبت أن هذه الساحة الدولية هامة جداً وبحاجة الى عمل وحرث جدي لكسبها لصالح قضايانا، بحاجة الى سفراء وممثلين على مستوى المسؤولية ولديهم انتماء لهويتهم وقضيتهم، وليس الى مجموعة من الفاسدين، والذين لا هم لهم سوى مصالحهم وقضاياهم الشخصية، وكذلك هذه الدول بحاجة الى دعمنا ومساندتنا اقتصادياً، وتوجيه استثماراتنا الى قطاعاتها الاقتصادية المختلفة، فهي صديقة لنا ومناصرة لقضايانا، وهي أحوج وأحق بهذه الاستثمارات من الدول التي تناصبنا العداء علناً وجهراً وتحتل وتساعد الغير على احتلال أرضنا، وتقدم الدعم اللا محدود لأعداء هذه الأمة، وهي طوال ثمانية عشرة شهراً من المفاوضات العبثية لا تبيع شعبنا الفلسطيني والشعوب العربية سوى شعارات وأكاذيب، وتتنكر لكل حقوق شعبنا ومقررات الشرعية الدولية الخاصة بحقوقه، ولا تكتفي بذلك، بل وتريد معاقبة الدول التي تعترف بهذه الحقوق، ورغم كل ذلك ما زلنا نتودد لها ونستعطفها ونستجديها، أي عجز وانهيار هذا؟، فأمريكا والإتحاد الأوروبي لو شعروا بمواقف جدية من قادة هذه الأمة، ولو استثمروا طاقات وإمكانيات الأمة في لغة المصالح، لأجبروا أمريكا وغيرها على ممارسة ضغوط جدية وحقيقية على إسرائيل ليس من أجل وقف الاستيطان فحسب، بل والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة .
فأمريكا تعلن جهراً وعلناً تنكرها لمقررات الشرعية الدولية، وتقول بأن مرجعية المفاوضات والتسوية هي طاولة المفاوضات، وهي تساند إسرائيل في كل مواقفها، وتريد منا استسلاماً غير مشروط.
ومطلوب منا وقفة عزة واحدة، مطلوب منا أن نقول لأمريكا، مللنا كل وعودكم وشعاراتكم الجوفاء والفارغة، مطلوب منا موقف جريء وامتلاك للإرادة، مطلوب منا أن نكف عن التآمر على بعضنا البعض، مطلوب منا أن نغلب مصالح الأمة القومية على المصالح القطرية، مطلوب منا أن نعاقب أمريكا وأوروبا الغربية على نفاقها وعهرها وازدواجية معايرها، مطلوب منا أن نلتقط المغيرات الدولية والإقليمية لخدمة مصالحنا وقضايانا، لا أن نسير خلف أمريكا كالقطيع نردد عباراتها وشعاراتها، فأمريكا هي العدو الأول للشعوب وفي المقدمة منها الشعب العربي، أمريكا لن تجلب لشعبنا الفلسطيني لا دولة ولا حقوق، أمريكا تدير أزمة وترحل قضيتنا من إدارة أمريكية إلى أخرى وهكذا دواليك.
علينا كعرب وفلسطينيين أن نصحو، وأن نحذو حذو دول أمريكا اللاتينية التي إنكوت بسياط أمريكا والطغم الديكتاتورية التي كانت تنصبها كقيادات لتلك الدول، فالرأسمالية الأمريكية تزداد تغولاً وتوحشاً ولا يهمها سوى مصالحها، وبلغة المصالح يجب أن نحاربها، وعلينا أن نوظف كل طاقات وإمكانيات الأمة في معاركنا، بما فيها خيار المقاومة، حينها فقط نستعيد دورنا وحضورنا محلياً وإقليميا ودولياً، ونتمكن من استعادة حقوقنا وأوطاننا.