لقد تفننت الولايات المتحدة الأمريكية في إلصاق الأوصاف المعيبة بالدول التي تقاوم الرلاكوع أمام جبروتها. وهكذا انتشرت في وسائل الإعلام العالمية وعلى ألسنة المسئولين الأمريكيين عبارات من مثل "الدولة الفاشلة" أو "معسكر الشر" أو "الدولة المارقة" لوصف الأعداء، ومقابل ذلك عبارات من مثل "المعسكر الحر" أو "الدولة الديمقراطية" لوصف الأصدقاء والخلان المستسلمين للقدر الأمريكي.
لكن، ومقابل ما تصف به أمريكا نفسها بأنها "دولة الحرية وفرص السمن والعسل"، هل يمكن إضافة وصف موضوعي حقيقي للدولة الأمريكية؟ والجواب هو نعم، إذ انها من دون مبالغة أو تجنٍّ أصبحت "دولة الفضائح". دعنا من الفضائح الموغلة في القدم، بدءاً بإبادة الملايين من الهنود الحمر بالنَّار وبنشر الأوبئة بينهم، مروراً بالاستيلاء على أراض شاسعة من خلال حروب طاحنة مع المكسيك والفرنسيين والأسبان، مروراً باصطياد الأفارقة السود وشحنهم في سفن كالأنعام لتسخيرهم كالعبيد في مشاريع الزراعة وماكنات الإنتاج والخدمة.. دعنا من كل ذلك التاريخ الدموي المشين ولنتوقف عند عناوين المحطات الرئيسية في القرن العشرين لنذكر أنفسنا بسلسلة الفضائح الأمريكية الرسمية المحزنة التي لا تنتهي، إذ هي في الأساس فضائح الأنظمة السياسية الحاكمة المتعاقبة، تحدث من وراء الشعب الأمريكي أو بالرغم عنه أو بغسل عقله وإماتة ضميره.
هل نذكر بالفصل العنصري للأفارقة الأمريكيين في المدرسة والمستشفى والسكن والمطعم والباص؟ بمنظمة الكوكلوكس كلان العنصرية في الجنوب الأمريكي وهي تختطف السلاود وتعلقهم بالمشانق على أغصان الأشجار؟ بالتواطؤ مع الانجليز في وأد محاولة محمد مصدق رئيس الوزراء الإيراني لتأميم النفط في الخمسينيات؟ بالاعتراف بالكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة بعد دقيقة واحدة من قيامه ومن ثم حمايته ودعمه لاجتثاث العربي الفلسطيني من أرضه ومد الكيان بالسلاح والمال والتكنولوجيا ليتفوق على كل العرب في كل ميدان؟ بحرب فيتنام وفضائح استعمال النابالم في حرق الزرع والبشر؟ بإلقاء القنبلتين النوويتين على شعب اليابان وقتل الألوف الأبرياء مع معرفة حكومتها التامة بقرب استسلام القوات المسلحة اليابانية؟ بتواطؤ وكالة المخابرات الأمريكية مع أعداء الرئيس الوطني الاندونيسي سوكارنو والانتهاء بموت أكثر من مليون اندونيسي في حرب تطهير قذرة؟ بتمويل الوكالة إياها انقلاباً ظالماً على رئيس منتخب انتخابا ديموقراطيا هو الرئيس الوطني التشيلي اليندي ثم قتله؟ بدعم كل دكتاتور دموي فاسد عبر أمريكا الجنوبية كلها طوال القرن العشرين طالما أنهم يسمحون للشركات الأمريكية بنهب شعوب تلك البلدان الفقيرة؟ بالتخلي عن كل حليف يخدمها حالما تقتضي مصلحتها ذلك، كما فعلت بشاه إيران وبرئيس الفلبين؟
وفي المدة الأخيرة تفجرت الفضائح تلو الفضائح في معتقل جوانتنامو السيئ السمعة وفي سجن أبوغريب المشين وفي معتقلات وكالة الأمن الأمريكية المنتشرة في بلدان العالم حيث يمارس التعذيب والفحش والإذلال. وها هي فضائح وثائق الويكيليكس تفضح المشهد العراقي المفجوع من جديد بعد أن فضحت المشهد الأفغاني منذ أسابيع. وها هو مشهد الساحة الباكستانية ينذر بقرب ظهور فضائح الرشوة وقتل المدنيين وتدمير المساكن على رؤوس أصحابها.
هل غطينا كل فضائح القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشـرين؟ أبدا، إذ ان القدرة الهائلة على الإفساد والقتل والإخضاع والتعذيب والكذب التي تملكها آلة الحكم الأمريكية، بالتواطؤ مع آلتها الصناعية والمالية والإعلامية، هي قدرة تفوق الوصف والإحاطة. ويعجب الإنسان كيف أن شعباً طيباً كالشعب الأمريكي، ونحن الذين درسنا في أمريكا عرفنا ذلك وخبرناه وأعجبنا أيما إعجاب بصفات الخير والإنسانية في هذا الشعب النشط المنتج المبدع.. يعجب الإنسان كيف تمر السنون والقرون وهذا الشعب غافل عن جريمة استعماله واستغلاله من قبل أقلية متحكّمة من دون أن ينتفض لكرامته وإنسانيته وحسه الأخلاقي والقيمي!
ستقضي وسائل الإعلام العالمية والعربية الأيام المقبلة وهي تناقش تفاصيل وثائق الويكيليكس الأخيرة بشأن جرائم الاحتلال الأمريكي وحلفائه والخونة المتعاونين معه، وستشير بأصابع الاتهام إلى الأمريكان والإيرانيين والعراقيين والقاعدة، لكن الأيام ستنسي الجميع مثلما أنستهم أنواعاً من المخازي المماثلة في الماضي. ولن تستطيع البكائيات والفذلكات التحليلية إرجاع أب إلى أبنائه اليتامى الباكين وإلى زوجته الثكلى ولا إرجاع أمٌ إلى زوجها المفجوع وأولادها الضائعين الهائمين. وسيبقى المشهد العراقي، كما المشهد الفلسطيني البائس، كما المشهد الأفغاني المدمر، كما المشهد الباكستاني المرعب، كما… وكما… إلى أن تحل إشكالية العالم كله مع جنون وحقارة وأنانية وألاعيب النظام السياسي الأمريكي وجيشه الجاهل المغرور ووكالاته الأمنية التي لا تخاف الله ولا تملك الضمير.
إن دولة الفضائح الأمريكية أصبحت عبئاً على الدول وعلى مسيرة الإنسانية وستحتاج إلى أن تراجع نفسها رفقاً بهذا الكوكب المفجوع.