معركتنا مع الاستبداد لن تكون فقط سياسية: إسقاط رؤساء متألهين من فوق عروش سُرقت في غفلة من الزمن، واجتثاث أنظمة سياسية قمعية قامت على الولاءات الفرعية غير الوطنية الجامعة وعلى الزبونة والنهب والفساد. ولن يكفي أن تكون معارك اقتصادية اجتماعية توزع بصورة عادلة ثروات المجتمع المادية والمعنوية.
معركتنا الكبرى والصعبة، التي لن تسمح بنكوص ثورات ومعارك الأمة الكبرى أو حرفها نحو مسالك التشويه والتزوير، هي المعركة الفكرية والثقافية بلا منازع ولا تأجيل. وهي المعركة التي لن تحسم عبر سنين أو حتى عقود، لأنها ستحتاج إلى أن تمتد في الزمان والمكان أن تتجذر في العقول والنفوس وفي تركيبة الشخصية العربية وسلوكياتها.
زاد معركة الفكر والثقافة يجدها الإنسان في تراثنا ونتاج مفكرينا الأحرار في الماضي والحاضر، كما يجدها في التراث الإنساني. وإذا كان السلاطين، قديماً وحديثاً، قد نجحوا، من خلال فقهائهم وأزلامهم وآلة إعلامهم، في ترويج ثقافة التبرير والتزيين لأخلاق العبودية وما يرافقها من طبائع الاستبداد لدينا الأمل بأن تبادر قيادات ثورات الربيع العربي الديمقراطية، إبان فورانها وبعد استقرارها، إلى اجتثاث ثقافة السلاطين تلك وإحلال ثقافة الحرية والكرامة الإنسانية المتجددة دوما مكانها.
في هذا الحيِّز الصغير نودُ أن نشير كمثال إلى أحد مصادرنا الفكرية المتألقة لارتباطه الشديد بما يجري الآن في الأرض العربية. فعندما وصف مؤلف كتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستبعاد»، المرحوم عبدالرحمن الكواكبي، وصف كتابه بأنه «كلمة حق وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غداً بالأوتاد» فإن صرخته وصرخات غيره ذهبت مع الريح في أودية التخلف والخنوع ليرتد صداها اليوم إلى أودية النهوض والثورة فتذهب بأوتاد الظلم والاستبداد بعد أكثر من قرن من الزمان.
هذا الكتاب يجب أن يقرأه جميع شباب الثورة الآن، ثم يجب أن يصبح جزءاً من مادة قراءة ودرس في كل جامعة ومدرسة ثانوية عربية. ذلك أن شباب المستقبل سيحتاجون، في فترة مبكرة من حياتهم، لبناء حساسية شديدة في عقولهم ونفوسهم لرفض أي نوع من الاستبداد في حياتهم الخاصة والعامة، وكذلك لامتلاكهم وعياً عميقاً والتزاماً أخلاقياً بأهمية تواجد العدالة والإنصاف في مجتمعاتهم.
عندما يقرأ الشباب ويستوعب ويقتنع بأن «المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم درًا وطاعة، وكالكلاب تذللاً وتملقاً… والرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام تستميت دون بقائه في يدها، لتأمن من بطشه، فإن شمخ هزت به الزمام وإن صال ربطته».
وعندما يقرأ ويؤمن بأن «اشد مراتب الاستبداد التي يُتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية… (وأن المستبد) يتجاوز الحد ما لم ير حاجزاً من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً لما أقدم على الظلم».
وعندما يتمعن الشباب في أن «الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني (وأن المستبد) يتخذ بطانة من خدمة الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله… (وأن) من يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام عن المسئولية حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا، وعدُّوا كل معارضة لهم بغياً يبيح دماء المعارضين… (وأن) الإسلامية مؤسسة على أصول الحرية، برفعها كل سيطرة وتحكم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء… وجعلت أصول حكومتها الشورى… وجعلت أصول إدارة الأمة: التشريع الديمقراطي، أي الاشتراكي»، وأخيراً عندما يقرأ الشباب مناشدة عبدالرحمن الكواكبي، الذي مات شهيداً في الأربعينيات من عمره، بعد أن دسَّ له المستبدُون السم في فنجان قهوة، مناشدته لهم بأن يكتبوا على جباههم «أكون، حيث يكون الحق ولا أبالي… أنا حرُ وسأموت حراً… أنا مستقل لا أتكل على غير نفسي وعقلي. أخاف الله لا سواه».
عندما نغرس في عقول وقلوب شبابنا، في البيت والمدرسة والجامعة والحزب وكل مؤسسات العمل والنشاط والخدمة العامة ووسائل الإعلام، عندما نغرس مثل هذا التراث الفكري والثقافي، فإننا عند ذاك سنطمئن بأن طبائع الاستبداد، القائمة على طبائع الخنوع والاستعباد، المتجذرة في تاريخينا السياسي وبعض فقهنا المتخلف والكثير من مؤسسات مجتمعاتنا، طبائع الاستبداد تلك لن تعود، ومعها لن يعود الطغاة الفاسدون الذين تحاول عجلات الثورات الشبابية في الوطن العربي الكبير أن تقضي على مؤسسات الظلم والجور والفجور التي فرضوها على هذه الأمة المنكوبة