بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
للوسطيَّة مزاياها الإيجابيَّة في العديد من جوانب الحياة. وقديمًا قيل: "خير الأمور أوسطها ". ومع حكمة القول وبلاغة المضمون إلاَّ أنَّ ضرورات الموقف "الوسط" تنتفي أمام حدود القضايا المصيريَّة، حيث تتحوَّل "الوسطيَّة" إلى "حياديَّة"، وينتقل الموقف "المعوَّم" أو" اللاموقف " إلى مواقف مضادَّة لمصالح للوطن وحقوق الشعب.
الانتخابات المقبلة في العراق المحتلِّ، بصرف النظرعن شرعيَّتها وجدواها، حدث ذات تعبات على تطوُّرات الموقف السياسي في العراق. حدث يستمدُّ أهمِّيَّته من كونه أحد مقوِّمات عمليَّة المحتلِّ السياسيَّة، ومستلزمًا أساسًا لتأمين السيطرة الأمريكيَّة على "عراق ما بعد انسحاب القوَّات الأمريكيَّة". هذه الأهميَّة تنسف مبرِّرات "الموقف الوسط" إزاء الانتخابات، وتنقله إلى موقف سلبيٍّ منافٍ لمصالح شعبنا ولثوابت المقاومة وضرورات التحرير. لذا فالمصلحة الوطنيَّة، وضرورات ديمومة مقاومة شعبنا وانتصارها تفرض على جميع القوى الوطنيَّة المناهضة للاحتلال تبنِّي موقف رافضٍ للمشاركة في عمليَّة الاقتراع، ويحتِّم عليها العمل على تعبئة جماهير شعبنا بشكل عامٍّ في اتِّجاه المقاطعة الشاملة للانتخابات.
لا شكَّ في أنَّ إعلان القوى والتجمُّعات الوطنيَّة عن رفضها العمليَّة السياسيَّة بما فيها انتخابات الاستحقاق الأمريكي موقف ضروريٌّ وصائبٌ، إلاَّ أنَّ الاكتفاء بالإعلان عن الموقف دون اقترانه بالجهد العملي الموجَّه لإجهاض الانتخابات ووأد عمليَّة المحتل السياسيَّة، يبقى جهدًا ناقصًا وموقفًا قريبًا من الحياديَّة. الضرورة الوطنيَّة، تحتِّم على جميع القوى والتجمُّعات السياسيَّة المناهضة للاحتلال والمناصرة للمقاومة العمل على تهيئة قواعدها وتعبئة جماهير شعبنا لمقاطعة الانتخابات.
تحديد سمات الموقف الوطني الصائب إزاء انتخابات الاستحقاق الأمريكي، وتعقيدات الواقع السياسي العراقي تبقى مهمَّة يسيرة إذا ما التزمنا بثوابت الوطن والمقاومة، وإذا ما ابتعدت الأطراف الأساسيَّة عن الحسابات الذاتيَّة، والمغريات الحزبيَّة والفئويَّة. الخيار الوطني الوحيد إزاء الانتخابات، ينحصر في رفض المشاركة في كلِّ ما له صلة بعمليَّة المحتلِّ السياسيَّة وفي مقدِّمتها "الانتخابات".
هذا الموقف، لا يستمدُّ قوته من شرعيَّة ثوابت المقاومة وصوابها، ولا من كون العمليَّة السياسيَّة نتاجًا لاحتلال يفتقد مقوَّمات الشرعيَّة القانونيَّة والأخلاقيَّة فحسب، بل لاستنادها على مبداء المحاصصة الطائفيَّة والعرقيَّة، ولخطورتها على وحدة شعبنا التاريخيَّة، وتجييرها ثرواته لحساب الشركات الاحتكاريَّة، بالإضافة إلى كونها عنصرًا هامًّا من عناصر مشروع الهيمنة الأمريكي – الصهيوني، وآليَّة لتغطية جرائم الاحتلال وعملائه تجاه شعب العراق، وعائقًا أمام استرداد السيادة الكاملة، وتحصيل استحقاقاته الوطنيَّة بما فيها حقُّ التعويض الكامل عن جميع الخسائر المادَّيَّة والبشريَّة الناجمة عن الاحتلال وتبعاته. العمليَّة السياسيَّة، بكلَّ بساطة، تجسَّد جوهر مشروع الاحتلال وتضمن تحقيق أهدافه.
اللافت أنَّ وضوح دوافع رفض العمليَّة السياسيَّة لم تسهم في إزالة تردُّد بعض القوى الوطنيَّة المؤثِّرة وتحفيزها لتعبئة المواطن العراقي ودعوته علنيًّا إلى مقاطعة الانتخابات بشكل مطلق. ما قدَّمته هذه القوى من مبرِّرات عدم إقدامها على هذه الخطوة الهامَّة، تبقى في تقديرنا مبرِّرات غير صائبة لا يمكن قبولها. هذا التردُّد مع إشكاليَّته، لا يمكن مماثلة أضراره بالآثار المربكة لدعوات المشاركة في الانتخابات الصادرة عن بعض المحسوبين على قوى سياسيَّة معروفة برفضها المطلق للعمليَّة السياسيَّة ودعوتها الصريحة إلى مقاطعة الانتخابات.
ثمَّة حقاثق ننصح "الوسطيَّين" وأصحاب دعوات "العقلانيَّة" و "الواقعيَّة" و "المرونة" وأصحاب دعوات المشاركة من أجل "التأثير في نتائج الانتخابات" التوقُّف أمامها بتمعُّن قبل المغامرة وتبنِّي مواقف خاطئة.أنَّ الانتخابات لا تمتُّ بأيِّ شكل أو صيغة لمصالح شعبنا، بل مطلب أمريكيٌّ يسعى إلى فرض فريق من العملاء المزدوجين على شعب العراق بتغطية "انتخابيَّة" شكليَّة و "ديمقراطيَّة" محسومة النتائج، من أجل تأمين السيطرة الأمريكيَّة على العراق بعد انسحاب القوَّات الأمريكيَّة. لذا، فالاقتراع لصالح أيَّ طرف أو قائمة أو فريق يبقى في نهاية الأمر اقتراعًا لصالح استمرارالاحتلال الأمريكي، لا كما يسوَّق عملاء الاحتلال بأنَّه خطوة لازمة لإنهاء الاحتلال وبناء الدولة الوطنيَّة. المشاركة في عمليَّة الاقتراع تدعم مشروع الاحتلال وتسبغ الشرعيَّة على عملائه. من الواضح أنَّ لسلطة الاحتلال المقدرة مرحليًّا على تحديد تضاريس الأرضيَّة السياسيَّة لصالحها، وفي مقدورها إضفاء الشرعيَّة الصورية على مشروعها الاستعماري في العراق بمساعدة عملائها ووكلائها المحليَّين والإقليميَّين، لكن ليس من المنطقي أوالمقبول وطنيًّا أن تشارك قوى سياسيَّة وطنيَّة مناهضة للاحتلال في تثبيت ركائز مخطِّط الهيمنة الأمريكي على مقدَّرات شعبنا وثرواته.
أكثر ما يثير القلق والإرباك، ويساهم في تصعيد حالة الضبابيَّة ويلحق الضرر في مسار نضالنا الوطني ضد الاحتلال، التلميح المبطَّن لبعض المحسوبين على قوى سياسيَّة وطنيَّة مقاوِمة إلى أهميَّة المشاركة في الانتخابات "بشكل غير مباشر" وكخطوة "تكتيكيَّة " من أجل التأثير في نتائجها لصالح العناصر المضادَّة لإيران وتقليل ثقلها وتأثيرها. لن نسهب في عرض أخطاء هذا الموقف التبريري ومخاطره، بل نثبت أنَّ هذه المواقف لا تبتعد في خطبها وتأثيراتها السلبيَّة عن مواقف أولئك الذين ساهمت مشاركاتهم في تمرير الدستور المسخ، وتوفير "الشرعيَّة " لحكومة المالكي الطائفية العميلة وبرلمان بيع العراق.
لا شكَّ في أنَّ أكثر المواقف استفزازًا للشعور الوطني الصادق واستخفافًا بعقليَّة المواطن العراقي تلك التي تلمِّح بدون أي وازع أخلاقي إلى ضرورة الاقتراع لقائمة " علاَّوي- المطلك " لكونها – وفقًا لادِّعائاتهم – الأكثر عداءً لإيران، أو لكونها القائمة الأقلَّ سوءً، (أهون الشرَّين)، على حدَّ تعبيرهم! أو أنَّها القائمة التي قد يمكِّن فوزها القوى الوطنيَّة من التأثير بشكل غير مباشر في تطوُّرات الموقف السياسي.
على المبشِّرين بإياد علاَّوي "مخلصًا" لشعب العراق أن يدركوا أنَّ النسيج الأخلاقي لإياد علاَّوي ومجموعته لا تختلف بمقدار حبَّة خردل عن النسيج الأخلاقي للخونة الآخرين أمثال الجعفري والمالكي والحكيم وعادل عبد المهدي والجلبي والطالباني وغيرهم من خونة شعب العراق وباعته. الدور المخزي لهذا العميل الصغير في تسويق احتلال العراق وتدمير دولته وقتل شعبه وتشريدهم، ونهب ثورته موثَّق ومعروف.
تقديم إياد علاوي مناهضًا للاحتلال الإيراني لشعب العراق طرح يتضمَّن الكثير من السذاجة والمغالطة. دوافع "الحميَّة العلاَّويَّة" ضدَّ إيران تعود إلى غايات انتخابيَّة هدفها خلق رصيد وطني وشعبي لهذا الخائن الصغير. وعلاَّوي كغيره من صنائع الاحتلال، يبقى في نهاية المطاف بيدقًا متلقِّيًا أوامر أسياده، وهو في أحسن حالاته أصغر من أن يواجه النظام الإيراني الشريك الاستراتيجي للولايات المتَّحدة في احتلال العراق.
المُدهش أنَّ "العلاَّويِّين" وغيرهم من الداعين للمساهمة في الاقتراع، يقدِّمون لشعب العراق قائمة اختيارغريبة، وتقترح عليهم المفاضلة بين خيارين السيئ والأكثر سوءً، ويغفلون خيارالمقاومة الشاملة للاحتلال ومؤسَّساته التي برهنت سنوات الاحتلال المنصرمة على فعَّاليَّته وقدرته على هزيمة الاحتلال ودحره.
ندرك أنَّ هناك من قد لا يتَّفق مع طروحات هذه المساهمة لدوافع معروفة لسنا في وارد التعرُّض لها، لكن على هؤلاء ان يدركوا ان العودة إلى ثوابت الوطن والمقاومة، تدعم صواب خيار المقاطعة الشاملة لانتخابات الاستحقاق الأمريكي، وعدم المشاركة فيها. فثوابت الوطن وضروراته، تفرض على القوى والأحزاب الوطنيَّة إعلان موقفها الرافض للانتخابات. والأهم من ذلك مطالبة قواعدها والعمل على تعبئة جماهير شعبنا لمقاطعة عمليَّة المحتل السياسيَّة التي ستفرض على شعبنا في جميع الأحوال فريقًا عميلاً آخر. القوى المناهضة للاحتلال مطالبة بتثقيف أبناء شعبنا بأنَّ مقاطعة الانتخابات يشكِّل اقتراعًا للعراق الوطن والهويَّة، والمشاركة فيها يعدُّ اقتراعًا للمذهبيَّة والفئويَّة والطائفيَّة ومصادرة ثروة الوطن، واقتراعًا للاحتلال، ومشاركتهم تعدُّ خرقًا لشروط المواطنة وثوابت الوطن.
القوى السياسيَّة المناهضة للاحتلال مطالبة في تبنِّي موقف منسجم مع كرامة شعبنا وتاريخه الحافل بمقارعة الغزاة وهزيمتهم، والعمل على إجهاض دوافع الانتخابات بمقاطعتها. خلاف ذلك، فجميع الطروحات البديلة تبقى مجرَّد مبرِّرات تمهيديَّة واهية، يقدِّمها لنا "المَرِنون" و "الوسطيُّون" و "العقلانيُّون" للانضمام إلى قافلة المحتلِّين والتمتُّع بمزاياها المادِّيَّة والسياسيَّة، وما أكثرها!