ألحت الحركة الصهيونية على تكريس فرية المحرقة التي تعرض لها اليهود على يد النازيين إبان الحرب العالمية الثانية، وبالتكرار المتواصل حد الملل والقرف غدت تلك الأكذوبة وكأنها واحدة من حقائق التاريخ التي لا تقبل الشك، بل ذهب الغرب بعيدا في تبنيه لهذه الفكرة العدوانية إلى حد إحالة كل من يشك بها إلى القضاء وهذا ما حصل مع الكثير من الرموز الفكرية والسياسية البارزة في أوربا.
اقتبست الإدارة الأمريكية ما أنتجته ماكينة الدعاية الصهيونية بشأن المحرقة المزعومة، وقدرتها على فرضها كواحدة المسلمات المؤكدة في أوربا والولايات المتحدة، فأرادت سحبها كنموذج يجب طرحه على الحقبة الوطنية من تاريخ العراق، ضمن محاولاتها لإيجاد المسوغات التي تبيح لها غزوه ثم احتلاله، تحت ذرائع مختلفة من بينها ( إنقاذ الشعب العراقي ) من سياسة المقابر الجماعية.
كان طبيعيا أن يكون للصحافة الغربية وعلى وجه الخصوص الصحافة الأمريكية، الدور الأكثر بروزا في الترويج لأكذوبة المقابر الجماعية، كانت عمليات المونتاج الميداني وفي استوديوهات الفضائيات ذات القدرة الفنية العالية، تعمل دون انقطاع من أجل تجميع العظام من المقابر المعروفة وتصويرها في ظروف إخراج سينمائي يشبه ما يحصل في هوليوود من إثارة وتشويق، وتعرضها على أنها صور المقابر الجماعية لضحايا أطراف كانت تعارض نظام الحكم الوطني، وتلقف بول بريمر القصة وتحرك زائرا لمواقع العمل المسرحي فيها كي يعطيها بعض المصداقية المفقودة.
كان من اليقيني أن هناك خدعا سينمائية تم توظيفها بمهنية عالية لدعم هذه المزاعم البالية من أجل تحقيق هدفين، الأول تكريس صورة نمطية عن طبيعة النظام الوطني وعما تسميه بالنزعة الدموية له، والثاني التغطية على جرائم القتل الجماعي والتطهير العرقي وإبادة الجنس البشري، التي ارتكبت منذ نيسان / أبريل عام 2003 وحتى الآن، سواء من قبل قوات الاحتلال أو من قبل المليشيات المدعومة من الإدارات السياسية والعسكرية الأمريكية في واشنطن والمنطقة الخضراء، والتي كانت تخدم مشروعا إيرانيا توسعيا في العراق والمنطقة، إذ يلاحظ المراقبون أن هناك حملات موسمية تشتد في بعض الأحيان وتأخذ طابع الإلحاح اللافت في فضائيات معروفة التوجهات وناطقة باسم دول أو أحزاب تزامنا مع جرائم تصفية طائفية أو عرقية وتريد تغطية جرائم الجهات الممولة لها، فإذا كانت القوات الأمريكية تعد العدة لواحدة من جرائمها في القتل أو الدهم أو الاعتقال أخذت قناة الحرة الأمريكية الناطقة باللغة العربية والتي تأسست بعد احتلال العراق لتكثف من عرض صور استهلكتها ذاكرة المتلقي بل تقيأتها من كثرة تكرارها.
وتقوم الحرة بنبش مقابر الفتن النائمة وإنتاج فتن مستحدثة في دول محسوبة في الغالب على محور الصداقة مع الولايات المتحدة، فتتحدث عن مظلومية الشيعة وكأنها الفضائية الناطقة رسميا باسم المذهب أو باسم المرجعية في قم، ولم تكلف نفسها يوما وهي تدار بأموال دافعي الضرائب الأمريكان وفي الوقت الذي ترفع فيه الولايات المتحدة شعارات العداء لإيران، أن تتحدث عن القمع المركب الذي يمارسه نظام الولي الفقيه في إيران، قوميا ومذهبيا والذي يتعرض له البلوش والأكراد والعرب أو الاضطهاد القومي واستلاب كرامة الإنسان الذي يتعرض له الترك في إيران، كما أنها لم تبادر ولو لمرة واحدة لمتابعة قضايا الفكر والقضايا الاجتماعية مثل حقوق المرأة أو ما تعانيه الأحزاب السياسية والحركات المناهضة لولاية الفقيه مثل مجاهدي خلق والحركات الإصلاحية التي انشقت على النظام الإيراني نفسه، كما تتابع وبنفس تحريضي لا تستطيع كتمانه مع قضايا أقل شأنا حينما يتصل الأمر بالأقطار العربية عموما ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص.
وتصعب عملية التمييز بين ما هو إيراني أو ما هو أمريكي في برامج قناة الحرة مما يعزز القناعة بأن عملاء إيران تمكنوا من التسلل إليها أو أنها هي التي جاءت بهم فتمكنوا من تحوير برامجها بما يخدم المشروع الإيراني في العراق والمنطقة، وهنا تكرر الولايات المتحدة تقديم جهدها ومالها في العراق مرة أخرى لإيران مجانا بعد أن قدمت انجازها العسكري باحتلال العراق هدية لإيران عام 2003، ويمكن التعرف على نوعية الخدمات التي تقدمها الحرة لإيران من مراجعة سريعة لأسماء العاملين فيها وارتباطهم بالأحزاب الطائفية الإيرانية العاملة في العراق، أو من خلال نوعية البرامج التي تحض على إثارة المشكلات الطائفية في دول الخليج العربي والمملكة العربية السعودية، لسبب بسيط وهو هذه الدول تتعامل بحذر شديد مع توجهات توسيع الهيمنة الإيرانية إلى دول الخليج العربي بعد إنجاز الصفحة العراقية.
وما ينطبق على الحرة ينطبق على القناة الحكومية الرسمية وسائر القنوات الحزبية الطائفية المرتبطة بإيران والتي تتزود بالدعم من الحكومة الإيرانية، إذ أن هذه الفضائيات تستبق ما تخطط له أجهزة الأمن أو المليشيات من خطط تصفيات طائفية أو سياسية، بعرض توليفات تم تجميعها من مناطق معروفة ثم يزعم بأنها صور للمقابر الجماعية.
فالمقابر الجماعية على ما يرى مراقبو المشهد العراقي الذين يتميزون بالموضوعية والحيادية، لا تعدو عن كونها رسالة تحريض للغوغاء على القتل ولتأجيج الكراهية ونزعة الانتقام ولتبرير جرائم المحتلين ومن جاء بهم أو معهم، فما هي حقيقة المقابر الجماعية المزعومة؟
في لقاء إذاعي مع إذاعة ألمانيا وإذاعة دجلة يقدمه ملهم الملائكة في الحادي عشر من شباط 2010، وجمعني عبر الأثير مع رياض البغدادي رئيس ما يسمى باللجنة الشعبية لاجتثاث البعث، تحدث الأخير عما اعتبره تسامحا مع البعثيين من قبل القوى السياسية التي سلمها المحتلون حكم العراق، وقال متهكما ( على البعثيين أن يحمدوا الله لأنهم لم يتعرضوا للقتل كما حصل لهم في ما أسماه بالانتفاضة الشعبانية عام 1991 حينما قتل في يوم واحد أكثر من 220 ألفا منهم )، حسنا كم من البعثيين قتلوا خلال مدة نشوب أعمال الغوغاء المدعومين من حرس الثورة الإيرانية، وكانت عناصر فيلق بدر أداة القتل المباشر؟ وأين دفن هؤلاء الشهداء الذين تم طعنهم من الخلف غدرا وغيلة؟ أليست المقابر الجماعية التي تتحدث عنها صحافة أمريكا بعد أن ابتدعت فصولها كما ابتدعت الحركة الصهيونية أكذوبة الهولوكوست؟
وما هي جريمة من قتل في اليوم الأول من صفحة الغدر والخيانة عام 1991 والذين وصل عددهم إلى 220 ألفا؟ هل يبرر اعتناق فكرة سياسية ما، أن يتعرض هؤلاء لجريمة إبادة جماعية حينما ينقطع حبل الأمن؟ وأين هي المنظمات الدولية عن هذا الاعتراف؟ ومن يتحمل مسؤولية الدماء التي سفكت دون وازع من أخلاق أو ضمير أو رادع من قانون؟ ومتى سنرى من تلطخت أيديهم بدماء العراقيين من الجنود والضباط المنسحبين من الكويت تحت الضربات الجوية والصاروخية، والبعثيين الذين أرادوا الحفاظ على مؤسسات الدولة العراقية من التدمير كالذي حصل بعد الاحتلال ، ولكنهم استهدفوا بالقتل الأعمى.
أما آن الأوان لكل الجناة الحقيقيين أن يمثلوا أمام القضاء العادل محليا أو دوليا لينالوا جزاءهم العادل؟ وهل لغير هذا تشكلت المحاكم الدولية؟