د. عصام نعمان
العرب اليوم في قلب مخاض مرير يتجدد معه وفيه مطلب إستنهاض الأمة. انه مخاض الأمة كلها على امتداد قارتها. مخاض طويل يعتمل في القلوب والعقول، ويتصل بكل مناحي الحياة وقضاياها ومفرداتها، ويتفاعل مع المخاض الاكبر الذي يلف العالم برمته، وينبيء بأن المسكونة تعيش مرحلة تحوّل وإنتقال من نظام كوني الى آخر.
مخاض الأمة هذا، ما تحدياته الماثلة؟ وما ديناميات مواجهتها؟
أول التحديات تداعي نظام الحياة العربية بما هو انموذج مركّب من موروثات الشرق العثماني ومكتسبات الغرب الاوروبي بوجهيه الاستعماري والحداثي، الخاضع لهيمنة أمريكية تركبُ موجة التكنولوجيا وثورة المعلوماتية والإتصالات، وترتهن للصهيونية العالمية. ذلك ان العرب ما زالوا عاجزين عن إقامة نظام اقليمي لرعاية حياة عربية متميزة عن العثمانية الإسلامية الذاوية والعلمانية الاوروبية السائدة، كما عجزوا عن بناء دول ديمقراطية حديثة للنهوض والوفاء بمطلبي العدالة والتنمية.
فوق ذلك، عجز العرب عن مواجهة هجمة صهيونية ضارية تمكّنت من السيطرة على فلسطين التاريخية، من البحر الى النهر، واستطاعت ايضاً فرض معاهدة صلح على مصر أخرجتها من حومة الصراع العربي ـ الصهيوني.
ثاني التحديات توقُ العرب الى الحرية والكرامة والنهضة، والمعوّقات التي تواجه هذا التوق. صحيح ان انتفاضات الجماهير في الاقطار العربية وطنية في منطلقها. لكن الصحيح ايضا ان الولايات المتحدة سارعت الى احتوائها بمخطط جوهره التضحية برؤوس الأنظمة السياسية الموالية بغية المحافظة على اجسامها.
الى ذلك، ثمة تحدٍ يتداخل مع تحدي توق العرب الى الحرية والكرامة والنهضة. انه تحدي "اسرائيل" العدوانية التي تواجه مقاومة عربية ناشطة في فلسطين ولبنان وسوريا. مقاومة التحدي الصهيوني تستولد لدى القوى الإصلاحية حساسية خاصة بأولوية المقاومة على سواها من المهام، ما يستدعي مقاربةً استثنائية للمطالب الاصلاحية. حيال هذه الإشكالية، لا بد من ايجاد صيغة للحوار الوطني كفيلة بمعالجتها وتجاوزها على نحوٍ يتيح التوافق على برنامج سياسي متكامل لتحقيق المطالب الإصلاحية ولتعزيز خيار المقاومة ونهجها الفاعل والمجزي.
ثالث التحديات صعودُ التيار الإسلامي بفصائله المتعددة والمتنافسة، وما يعكسه من آثار على الإنتفاضات الشعبية في الاقطار العربية وعلى سائر القوى المناضلة من اجل الأهداف الاصلاحية. ذلك ان بعض الحركات الإسلامية استعجل الإستحواذ على السلطة في تونس ومصر وذلك بتفاهم ضمني، على ما يبدو، مع الولايات المتحدة وحلفائها المحليين.
في هذا السياق، تبدو الولايات المتحدة راغبة وساعية الى ترويج صيغة "إسلام اردوغان" التركية كبديل من الإسلامَين السلفي والجهادي في بعض الأقطار العربية لكونها تزاوج بين الدين والديمقراطية الامر الذي يناسب الولايات المتحدة ويغنيها عن التعاون مع الإسلاميين السلفيين او تغطية تطرفهم.
رابع التحديات تداعي نظام الرأسمالية المعولمة وآثاره على العرب والعالم. لعل الكاتب الأمريكي اليهودي غير الصهيوني روجر كوهين اصاب في تشخيص أسباب أزمته البنيوية بقوله إنه "تفوّق المال على السياسة". كيف؟ "مع ظهور قوى جديدة، احدثت العولمة تحوّلاً في العلاقات بين رأس المال والعمل لمصلحة الاول، فأصبح هناك عدد اكبر بكثير من العمال الذين يتقاضون اجراً زهيداً خارج الغرب نتيجةَ إلغاء التكنولوجيا للمسافات، وتبيّن ان عائدات الرساميل اعلى مقارنةً بالاجور. هكذا أصبحت الثغرة بين الأثرياء والفقراء هوةً سحيقة".
تراجع دول اوروبا وأمريكا الناجم عن أزمتها المالية والاقتصادية سيؤدي الى تقليص قدرتها على الوفاء بإلتزاماتها الخارجية والى تقليص وجودها ونفوذها ما وراء البحار. ويختصر روجر كوهين في صحيفة "نيويورك تايمز" مسار انحدار الغرب بقوله : "ها هي الامبراطورية الأمريكية، او بشكل عام سلطان الغرب، ينتهي ليس بسرعة إنما بإطراد".
خامس التحديات ثورةٌ الكترونية في عالم الإتصال والتواصل والمواصلات والمعلوماتية باتت معها المسافات مجرد حالة ذهنية، وقد انعكست بفعاليةٍ مذهلة على مختلف ميادين الحياة ولا سيما على اسواق المال، الإعلام، الثقافة، السياسة، التجسس، الحرب، والمقاومة المدنية والميدانية. ولعل مشروع استنهاض الامة يتأثر بالثورة الالكترونية، اكثر ما يكون، في ميادين اربعة: الثقافة، الاعلام، السياسة، والمقاومة. ذلك ان اهل القرار اصبح في وسعهم استخدام ادوات الإتصال والتواصل والإعلام بفعالية في مختلف وجوه التوعية والتعبئة والإثارة والتثوير. كل ذلك ينعكس بدوره على السياسة، تفكيراً وتدبيراً، كما على المقاومة بكل وجوهها ومتطلباتها.
من واقع هذه التحديات الخمسة الرئيسة، تتوجب مهام خمس اساسية:
اولى المهام استنهاض الأمة وليس استنهاض التيار القومي العربي او التيار الإسلامي او اي تيار آخر. فالتحديات التي تواجهنا تمسّ الامة جمعاء بكل افرادها وجماعاتها ومؤسساتها واحزابها وفعاليات حياتها. في هذا السياق، يقتضي وعي وادراك تعددية الإجتماع السياسي والحضاري العربي من حيث وجود اقوام واثنيات وطوائف ولغات وثقافات متنوعة في القارة العربية. لذلك فإن اعتماد مقولة القومية كأيديولوجيا يفضي الى نمط من الحصرية والعنصرية تصبح معه القومية عقيدة قومٍ او جماعة من الناس دون سائر الاقوام والاثنيات والجماعات والطوائف.
والحال ان العروبة هوية جامعة نابعة من لغة غالبية الأمة التي تعيش في رقعة جغرافية مميزة بالهوية ذاتها، وهي تُشّكل رابطة قابلة لإحتضان المشتركات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية القائمة بين تلك الاقوام والاثنيات.
يساعد اعتماد "العروبة" هويةً جامعة بدلاً من "القومية العربية"، و"العربي" كصفة للمواطنة بدلاً من تعبير "القومي العربي"، والتيار العروبي بدلاً من "التيار القومي العربي"، يساعد ذلك كله في اختيار الاتحادية (الفدرالية) كنظام سياسي يحقق مبدأ "التنوع في اطار الوحدة".
ثانية المهام التعاطي بإيجابية مع صعود الإسلام الحركي والاخوان المسلمين الى السلطة في تونس ومصر، اذ بات من غير الممكن، إن لم يكن من المستحيل، السير في مشروع إستنهاض الامة بمعزل عن هذا التيار الإسلامي او في مواجهته.
الى ذلك، فإن "يقظة" الاقوام والاثنيات غير العربية من شأنها دفع قوى التيارين العروبي والإسلامي الى تقديم نقاط التلاقي بينها على نقاط التجافي من اجل تغليب فرص التوحيد على محاولات التفريق. ولعل اكثر ما يساعد في توليف مشروع استنهاض الامة توافقُ قوى
التيارين على الاهداف الست للمشروع النهضوي الحضاري العربي وهي: الوحدة، الاستقلال الوطني والقومي، الديمقراطية، التنمية المستقلة، العدالة الإجتماعية، والتجدد الحضاري.
ان توافر الإيمان والإلتزام بهذا المشترَك السياسي والحضاري من شأنه تعزيز مشروع استنهاض الامة في سياق عروبي اسلامي. يتأسس على ذلك، وجوب مبادرة قادة قوى التيارين العروبي والإسلامي الى التوافق على برنامج وطني سياسي اقتصادي اجتماعي لبناء دولة مدنية ديمقراطية دستورية حديثة في مصر، تكون مثالاً وقدوة لسائر دنيا العرب. كما يقتضي ان يعيد القادة الشباب في التيارين النظر في مؤسسات المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي الإسلامي ومؤتمر الاحزاب العربية. أليس اجدى وافعل ان تجتمع المؤتمرات الثلاثة في مؤتمر عربي عام يصبح وحده الآلية الاتحادية المساعدة على تشكيل الكتلة التاريخية المطلوبة لتحقيق اهداف المشروع النهضوي الحضاري العربي؟
ثالثة المهام الإحاطةُ بأبعاد المخاض الذي يعصف بالعالم والإستفادة من تحوّلاته المؤثرة. فقد انتقل مركز الثقل في العلاقات السياسية والاقتصادية الدولية الى آسيا، بل الى الصين تحديداً، وافقدت الازمةُ المالية والاقتصادية العالمية الولايات المتحدة وحدانيتها القطبية، واكرهتها على إلتماس العون المالي من دول ناشئة وصاعدة بالإضافة الى الصناديق السيادية لدول النفط العربية. ذلك كله جعل الدولة العظمى اقل قدرة على الايذاء، وعزز فرص نشوء تعددية قطبية.
في موازاة هذه التحولات ونتيجة لها في آن، أطلّت ظاهرة جديدة جوهرها ان حروب المستقبل ستكون حروباً بين تنظيمات مقاومة شعبية من جهة وجيوش نظامية من جهة اخرى، وحتى بين تنظيمات شعبية مسلحة بمعزل عن وحدات نظامية. هذا ما توصل اليه خبراء وزارة الدفاع الأمريكية حول الدروس المستفادة من حرب 2006، كما نشرتها صحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ 4-6-2009.
ازاء صعود المقاومة، خياراً ونهجاً ، في صراعات المنطقة، يقتضي ان يجدد التياران العروبي والإسلامي إلتزامهما مهمة استعادة مركزية قضية فلسطين في الحياة العربية والإسلامية، وتعطيل سياسة الولايـات المتحدة الرامية الى إحلال ايران محل اسرائيل في مرتبة الخطر الاول على العـرب في المرحلة الراهنة. ذلك ان تصحيح الفهم الإستراتيجي لحقائق الصراع وتحولاته يُسهم في تسريع استنهاض الامة وحرمان التحالف الأمريكي الصهيوني من تمويل حربه "الناعمة" وحربه الفتنوية بين السنّة والشيعة على الامة وقواها الحية باموال العرب انفسهم.
اجل، يقتضي ان تدرك قوى التيارين العروبي والإسلامي حقائق الصراع لتفهم عالم اليوم بكل ابعاده وتحولاته. بذلك يصبح في وسعها الإسهام في تغييره وفي بناء نظام كوني جديد.