د/ علي محمد فخرو
من أجل تشويه القيمة التاريخية لثورات وحراكات الربيع العربي، وما تختزنه في شعاراتها التي رددتها حناجر الملايين من آمال وأهداف للمستقبل، تتفنن بعض قوى المصالح والمنافع في القراءات الخاطئة لما جرى وفي إلصاق التهم والنعوت لما حدث.
من هذه التهم الباطلة أن تلك الحراكات وما أعقبها من أحداث وفواجع، قد قادت المجتمعات العربية من حالة الهدوء والسلم الأهلي والتعايش المشترك، إلى حالات انقسام المجتمعات على نفسها ودخولها في فوضى أمنية وسياسية.
هذه التهم تذكرنا بتهم مماثلة قيلت عبر تاريخنا وتاريخ الآخرين. قالتها قريش لنبي الإسلام (ص) عندما نادى بمساواة أغنياء ووجهاء القوم مع فقراء وبسطاء القوم في الكرامة والمكانة والحقوق الإنسانية. كان ذلك بالطبع نقلاً لمجتمع مكة من سلم أهلي كاذب، مفروض بالعصا وبسلطة المال وبادعاءات تاريخية خادعة، إلى مجتمع العدل والقسط والميزان والتساوي أمام خالق الكون ورسول الدعوة.
فهل كان يعقل أن تحدث تلك النقلة الثورية الكبري دون أن يدخل المجتمع المكي في انقسام كبير بين من يؤمنون بالثورة الجديدة ويعاضدون قائدها وبين من يعارضونها حمايةً لمصالحهم وامتيازاتهم؟
نفس الصورة، ونفس الانقسامات المجتمعية، والتهم أيضاً، كيلت ورفعت بصوت عالٍ، واجهها حكم الخليفة عمر بن الخطاب والإمام علي بن أبي طالب والخليفة عمر بن عبدالعزيز، لأن الثلاثة تعاملوا مع دين الإسلام كثورة اجتماعية كبرى تعمل من أجل إحداث تغييرات عميقة في مجتمعات البشر، وهو أمر لايقبله أصحاب المصالح والامتيازات.
والأمر كذلك حدث للمجتمع الذي فجّر فيه النبي عيسى ابن مريم (ع) ثورته الكبرى، وللمجتمع الفرنسي إبان وبعد ثورته الإنسانية المبهرة، وللمجتمع الأميركي عندما قاد الرئيس أبراهام لنكولن ثورته الشهيرة من أجل تحرير العبيد.
إن جميع تلك الثورات والتغييرات التي قادها مثل أولئك الأنبياء العظام والقادة الكبار، ما كان لها أن تنجح أو تبقى في ضمير البشرية كقيم أساسية وكدروس وعبر، لو أن أصحابها اكتفوا بإلقاء المواعظ والدروس النظرية.
لقد كان لابد من تجييش أجزاء من المجتمعات لتدخل في صدام مباشر مع أجزاء أخرى لتصبح الثورات ثورات تغيير ونقل من حال فاسد ظالم سابق إلى حال أكثر عدلاً في أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع.
لهذا، فإن الذين يشيعون التهمة بشأن ثورات وحراكات الربيع العربي، تهمة إدخال المجتمعات العربية الحالية في انقسامات وصراعات، إما أنهم لم يدرسوا تاريخ الثورات والحراكات التغييرية الكبرى في حياة البشرية عبر تاريخها الطويل، وإما أنهم يريدون أن يجعلوا من الربيع العربي مهرجان خطابات عبثية لا تغير ولا تبدل شيئاً في حياة العرب البائسة المتخلفة الرازحة منذ قرون تحت نير الاستبداد الداخلي والسيطرة الخارجية.
لكن، هناك جانب مهم يجب أن يتنبه له شباب وشابات الربيع العربي، من المستمرين في بذل الجهود والتضحيات لإنجاح ذلك الربيع رغم المصاعب والمصائب، هو محاولات جهات المصالح والامتيازات حرف الانقسامات المجتمعية من انقسامات حول أهداف الثورات الكبرى الضرورية العادلة، إلى انقسامات حول أمور فرعية لا دخل لها بالثورات ولا بالتغيرات التي تهدف الثورات إحداثها.
إن محاولات أصحاب المصالح والامتيازات تمثلت عبر التاريخ العربي وتاريخ الآخرين بدس الجواسيس والخدم القابلين للشراء بالمال والمناصب، دس هؤلاء بين صفوف الثوار ومناصريهم لجرف ثورتهم عن أهدافها الأصلية إلى أهداف فرعية، وإشغال الناس بالتالي بالدخول في صراعات فرعية.
لقد فعلها كبار قريش، وفعلها الأمويون وغيرهم، عندما أدخلوا المجتمعات العربية في مجادلات سفسطائية حول مقارنة سخيفة في الفضل والمنزلة الدينية بين الخلفاء الراشدين الأربعة، فأشغلوا العامة بذلك الجدل العبثي، وذلك حتى يتفرغ الطامعون في الحكم والمال للحصول على ما يبتغون بعيداً عن رقابة الناس المنشغلين بتلك السفسطة.
كل الثورات تعرضت لمثل تلك المحاولات الخبيثة من خلال دس الجواسيس والمخبرين والمتحمسين الكاذبين، حتى تضيع الثورات في المتاهات والمجادلات البيزنطية.
ثورات وحراكات الربيع العربي تتعرّض الآن لمثل ذلك الاختراق. المطلوب نسيان شعارات الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية واستبدالها بشعارات الصراعات الطائفية المبتذلة بين السنة والشيعة وأصحاب بقية المذاهب، وبشعارات الصراعات القطرية الضيقة والحزبية المتشنجة الاستئصالية، وبالطبع أخيراً شعارات التفاخر القبلية.
قبائل وطوائف العرب في ماضيهم المأساوي يحل محلهم اليوم أصحاب المال العرب وعساكرهم وطائفيوهم والمخابرات المحلية والدولية. في الماضي كان الهدف إفشال ثورة محمد بن عبدالله (ص) العظيمة، والآن إفشال ثورات وحراكات شباب وشابات الأمة.