هذه أمة لا تعرف وضع معايير واضحة لتعاون دولها في حقول من مثل حقول السياسة والاقتصاد. ومعاييرها لا يتفق عليها قبل البدء بأي عمل تعاوني، وإنما تترك لتقلبات الظروف والأمزجة والمصالح الآنية، وتاريخ العمل التعاوني أو الوحدوي العربي شاهد على كثير من الأمثلة المفجعة.
لنتذكر أن مشروع الاتحاد التساعي بين الإمارات السبع المتصالحة والبحرين وقطر، والذي اقترح قيامه إثر خروج بريطانيا من منطقة الخليج العربي في أوائل السبعينات من القرن الماضي تعثر بسبب الاختلاف حول موضوع هامشي هو مكان عاصمة الدولة الاتحادية التي كان مزمعاً قيامها. يذكر الإنسان المناقشات العقيمة التي دارت والصراعات الخفية التي أججت المشاعر حول هذا الموضوع الفرعي، وكيف ضاعت فرصة ذهبية لقيام وحدة بالغة الثراء والقوة والإمكانات المستقبلية.
لنذكّر أنفسنا بأنه كانت لأربع دول خليجية شركة طيران موحدة وواعدة. وكان باستطاعتها أن تنمو وتكبر لتصبح من أكبر الناقلات الدولية. لكن فشل مجالس إداراتها المتعاقبة في وضع معايير واضحة لتوزيع مراكز نشاطاتها بين الدول الأربع بشكل عادل وبعيد عن عنتريات المركز والفروع، أدى الى تفريخ مجموعات من الشركات المتنافسة في ما بينها، وذلك على حساب تعثر بعضها وضعف كفاءة بعضها الآخر.
لنتذكر بأن الوحدة الاقتصادية بين دول مجلس التعاون الخليجي قد واجهت الأهوال بسبب غياب المعايير. لقد احتاجت خطوة الوحدة الجمركية الي أكثر من ربع قرن لكي تستقر على أسس مقبولة من الجميع. وقد تعثر مشروع توحيد العملات الخليجية في عملة مشتركة على غرار اليورو الأوروبي بسبب عدم تنسيق الخطوات الاقتصادية التي قامت بها على حدة واستقلالية كل دولة من دول مجلس التعاون. فمدى ارتباط العملات الخليجية بالدولار شكل نقطة خلاف بين الأعضاء. وارتباط هذه الدولة الخليجية أو تلك باتفاقيات تجارية مع هذه الدولة الأجنبية أو تلك من دون تنسيق مسبق بين الأعضاء خلق زوابع محرجة للجميع. واليوم ينتقل مجلس التعاون إلى إشكالية جديدة بسبب مكان البنك المركزي للعملة الموحدة. ولا يحتاج الإنسان الى ذكر عشرات المواضيع الخلافية الأخرى بين دول المجلس مثل العلاقة مع إيران، أو الاصطفاف في أحد المعسكرات العربية المتضادة، أو التعامل العلني أو السري مع العدو الصهيوني، أو المنافسات غير الشريفة في المجالات التجارية والمشاريع الاقتصادية الكبرى.
لنتذكر المجادلات الدائمة حول توزيع نشاطات ومؤسسات الجامعة العربية وحول حصص توزيع المراكز القيادية فيها. وهي نفس المجادلات العقيمة التي يسمعها الإنسان في أي تجمع إقليمي قومي يختص بأي نشاط كان من مثل الصحة والتعليم والبترول والعمل.
لنتذكر المنافسات العربية على المراكز القيادية وعلى النشاطات الفرعية في المنظمات الدولية من مثل الأمم المتحدة واليونسكو أو منظمة الصحة العالمية.
لنتذكر الصراعات اليمنية حول الغنائم الاقتصادية وعدم قدرة المغاربة العرب على فصل السياسة عن الاقتصاد عند التعامل مع موضوع الصحراء المغربية، بل لنتذكر مشكلات مماثلة لا تعد ولا تحصى في الأرض العربية كلها.
نحن إذن أمام إشكالية كبرى في العمل التعاوني العربي، على المستويات الوطنية والقومية والإقليمية تحتاج الى فهم ومواجهة. وهذا الفهم يحتاج أن يخرج من أطر فكرية جامدة ومتخلفة. فعواصم الدول الأكبر ليست بالضرورة هي الأفضل والأحق. إن مدينة بروكسل أصغر بكثير من لندن أو برلين ولكنها المركز الرئيسي لمؤسسات الاتحاد الأوروبي. والعلاقات العائلية بين قادة الحكم لا تغني عن وضع معايير وضوابط صارمة ومتفق عليها. والخلافات السياسية أو الإعلامية يجب ألا تقوض العلاقات الاقتصادية أو الثقافية. إن أتربة العواصف الرملية تحجب الرؤية بصورة مؤقتة، وكذا الأمر بالنسبة لعواصف الاختلافات السياسية أو الاقتصادية. لكن المؤقت يجب ألا يتحكم في الدائم، والآني يجب ألا يحكم المدى الطويل. ثم إن مستقبل التوحيد العربي في أي مجال كان هو من أجل أمان ورفعة وتقدم الأجيال والأقطار العربية كلها وليس ساحة شد وجذب وتنافس عبثي بين هذا الحكم أو تلك السلطة.
إن مقولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه تحتاج لأن يعاد التذكير بها: "من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت". وكذا الأمر بالنسبة لمكانة الأمة ومسؤوليها. إن أنظمة الحكم والقيادات عبر التاريخ تموت، لكن الأمة تبقى كالطود الراسخ. إن مصلحة الأمة على مدى أفق الزمن البعيد هو الذي يجب أن يعلو فوق كل ما سواه، وهو المبدأ الذي يجب أن تنطلق منه كل المعايير التي طال أمد وضعها والعمل بها.