عقاب يحيى
إنه يوم التاسع من نيسان.. يوم سقوط بغداد
بين السقوط والسقوط تنهال الأسئلة وقد أجابت عن نفسها بفصاحة تدمي القلوب.
كان التاسع منعطفاً، وكان ترجمة، وبياناً لما خططوا وأرادوا، تدمير العراق وتفتيته، ثم تسليمه للنفوذ الإيراني.
ولأن العراق كان جدار الاستناد.
ولأن العراق اخترق الممنوعات، وتخطّى الخطوط الحمراء المفروضة علينا.
ولأن البعبع صناعة هودية قديمة للماسونية وتفريخاتها الصهيونية.
ولأن تمزيق الأمة، وشرخها وفق أكثر من عامل رئيس: إثني وطائفي، جرى للعراق ما جرى.
***
مخطط احتلال، وتدمير العراق لم يكن نزوة عابرة، ولا فشّة خلق ضدّ الرئيس صدام حسين، لأنه لم يكن ديمقراطياً، ولم يكن مستجيباً كما يريدون، بل لأنه العراق حامل مشروع النهوض العلمي ودخول بوابة التصنيع العسكري، وأقوى جيش عربي ومسلم.
لم تكن حكايا السلاح غير التقليدي سوى كذبة مغشوشة، وساذجة، وبذيئة.
كما أن عشقهم للديمقراطية، ومحاربة الدكتاتورية، ستارة مثقوبة، لأن مشروع احتلال العراق – بداية لتنفيذ الأعم – وضع منذ الثمانينات، منتظراً وصول يمين عنصري في الإدارة الأمريكية، ووجود رئيس غبي، مهووس من طراز جورج بوش الابن، فكانت الكويت الحكاية، والستارة، وكانت حرب 1991 البداية، وصولاً لعشرين آذار عام 2003، حين أرسى الخبث الثعلبي البريطاني مراكبه في عقل جورج بوش، وصنّع المطلوب من الأباطيل لتشكيل تحالف الأساطيل، نحو خمسين دولة، تغزو العراق، وتستبيحه.
***
الحاكم العسكري بأمره "بريمر" كان مملوء الجيوب بما يحقق الهدف:
– حلّ الجيش العراقي، أهم وأكبر الجيوش العربية.
– حل حزب البعث واستئصاله بالجملة.
– وضع دستور يشرخ العراق طولاً وعرضاً على أسس مذهبية وطائفية.
– نهب آثار وثروات ومقدسات العراق، واستباحته بشكل منظم.
– وضع معارضة مصنّعة، وطائفية، وملغومة في مواقع الواجهة، وتثبيتها، مقدمة لتقديم العراق كاملاً للنفوذ الإيراني ومشروعه القومي المذهبي.
وكان الذي كان.
لم يصمد الجيش العراقي كما كان مؤملاً، ولم تقاتل بغداد وفق ما خطط، وسقطت بغداد بشكل درامي، وعاثت عصابات النهب والتقتيل، والتطويف في كل الأرجاء.
***
كتب الكثير في أسباب السقوط، والبعض تحدث عن خيانات من مستوى عال، وهناك من ركّز على "فتوى السيستاني" – "قدّس الله سرّه" -، لكن الأكيد أن الفاجعة كانت كبيرة، وشاملة، وأن بغداد المحتلة، وبغداد الذبيحة، دبّجت تاريخاً جديداً لعرب التهالك والتبعية، وبالوقت نفسه، سطّرت نشوء أسرع وأقوى مقاومة في التاريخ.
نعم تفاجأ الخبث البريطاني المعجون بتلك العنجهية الأمريكية بتلك المقاومة البعثية، والوطنية والإسلامية، والتي وجّهت للمحتل ضربات شديدة الإيلام كادت تنهي وجوده عام 2006 بالكامل لولا بعض الانعطافات والمتغيّرات التي حدثت، حين نهضت الوطنية العراقية أكبر من المأساة تحفر طريق الحياة، فتآمر كثير عليها، واستغل البعض أخطاءها، وعدم قيام البعثيين بمراجعات شاملة لنظامهم الأحادي، وممارساتهم القمعية، وعديد الظواهر المؤذية في تجربتهم.
تقسيم العراق على أساس إثني ومذهبي هو جوهر المشروع الخارجي، الصهيوني البصمات والنكهة، ثم تسليم العراق لإيران وقد أنهك الاحتلال الأمريكي وكاد يرفع راية الاستسلام طالباً الخروج من المستنقع بأي شكل وثمن، وكان الثمن، منح العراق لإيران، وإحداث شروخ عميقة فيه.
***
عراق الوطنية العريقة، ورغم الأثمان الفادحة التي قدّمها، لم يستكين، فحركة الرفض، والثورة على فواحش الحكم، وطائفيته لم تتوقف، وقد وصل ربيع العراق درجة قوية تهدد الحكم المصنّع بالسقوط، حين جاءت "الدولة الإسلامية" صاروخاً مفاجئاً، عابراً للتوقعات، وقد اختلطت الأوراق والحدود، وهي تقيم ستارة كثيفة على جوهر الصراع في العراق، وتعمل، مع الآخرين، على تشويهه، وقد نجحت، ونجح هؤلاء الخبثاء في تصدير الفكر الداعشي واجهة، لقيام حربهم الشاملة، حين تلتقي مخططات الطائفيين مع الجهات الغربية في حاملات الموت، والدمار للعراق، ومواجهة السنة العرب والقيام بفظائع ومذابح إبادية مخططة، وتغييرات ديمغرافية شاملة، وتطهير منظم في عدد من المدن، وفي بغداد ومحيطها، واستقدام مئات آلاف، بل ملايين الإيرانيين وتجنيسهم، ثم دخول "الحرس الثوري" جنباً إلى جانب "الحشد الشعبي" الطائفي، والقوات التحالفية، التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.
لعل من حسنات "الدولة الإسلامية" الوحيدة، أنها ألغت الحدود التي لم يستطع القوميون، وهم في الحكم، الاقتراب منها، حتى لو كان ذلك مؤقتاً، وعلى الطريقة الداعشية الإجرامية، المتخلفة، وهذا يطرح السؤال الكبير حول إمكانية تلاقي الثورة السورية بنظيرتها في العراق، وأقله إقامة تحالفات بينهما.
في يوم سقوط بغداد، نتذكر، ويتذكر النظام العربي ما فعل، وها هي النتائج، سكاكين على رقاب الأنظمة، والأوطان، وتهديد حقيقي للكيانات، والأمة، وربما شيء من ندم على ما فعلوا، يوم فرّطوا ببغداد، تآمروا، وتواطأوا، وتخاذلوا، فهل يتعظون؟؟.
الجزائر – التاسع من نيسان 2015