محمود كعوش
"حدث تاريخي هام وملمح سياسي مضيئ في تاريخ الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني"
وفق ما جرت العادة عليه في الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية، يُحيي الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه في الثلاثين من آذار الجاري ذكرى انتفاضة "يوم الأرض" المباركة
بمزيج من الأسى والمرارة حزناً على شهدائهم الأبرار الذين سقطوا في ذلك اليوم التاريخي من حياتهم والأمل والإصرار على المضي في النضال الوطني من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف في سياق خطوة مرحلية تقود إلى تحريركامل فلسطين من البحر إلى النهر.
ومما لا شك فيه أن ما يزيد من أسى ومرارة الفلسطينيين هو أن الذكرى تحل عليهم هذه العام في ظل تواصل الانقسام والتباعد بين سلطتي الحكم الوهميتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي ظل أوضاع مأساوية غريبة ومريبة طغت على المشهد العربي، بفعل انحراف الجامعة العربية عن المسار الذي إنشئت من أجله في أربعينيات القرن الماضي وتحولها من إطار للم الشمل والسعي للتوحيد وتحقيق الوحدة إلى إطار للتقسيم والتفتيت والتجزئة، تهيمن عليه بعض الأقطار العربية المرتهنة لخدمة المشروع الأميركي- الصهيوني الجهنمي في الوطن العربي.
أجمع المحللون على أن "يوم الأرض"، بكل ما رافقه من دموية ووحشية وما نجم عنه من نتائج واستحقاقات مؤلمة وكارثية، لم يزل يُمثل حدثاً تاريخياً مهماً وملمحاً سياسياً مضيئاً في تاريخ الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني وتاريخ الأمة العربية ونضالها القومي، باعتباره اليوم الذي عبر فيه فلسطينيو 48 عن رفضهم القاطع لسياسة الأمر الواقع التي فرضتها عليهم سلطة الاحتلال الصهيوني الفاشية، من خلال انتفاضة عارمة أعلنوا فيها بدمائهم الطاهرة إصرارهم على التشبث بأرض الآباء والأجداد وتمسكهم بهويتهم الوطنية وبحقهم المشروع في الدفاع عن وجودهم وانتمائهم الوطني الفلسطيني والقومي العربي، رغم مؤامرة التهويد المتواصلة والمترافقة مع عمليات الإرهاب والقتل والتنكيل التي ما برحت تلك السلطة العاتية تمارسها بحق الشعب الفلسطيني منذ عام النكبة الكبرى، بهدف اقتلاعه من أرضه وتهجيره وإبعاده عن وطنه وتشتيته في أصقاع المعمورة ومحاولة تذويبه في مجتمعات أخرى لا يربطه بها شيء من التقاليد والعادات والأعراف والتاريخ والجغرافيا، والتي كان آخر مظاهرها البشعة ما حدث ويلم يزل يتواصل في المسجد الأقصى وأكنافه وفي القدس وكل فلسطين.
ومثلما ظلت الأرض تشكل العنوان الرئيسي للصراع الفلسطيني ـ الصهيوني والصراع العربي ـ الصهيوني بشكل عام بالنسبة للكيان الصهيوني منذ ولادته القيصرية في قلب الوطن العربي عام 1948 وفق ما أشرت إليه جميع الأدبيات الصهيونية والخرافات التوراتية التي اعتبرت "زوراً وبهتاناً" أرض فلسطين ركيزة إنجاح المشروع الصهيوني الذي بشر به تيودور هرتزل اليهود أثناء انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897 وتبنته في ما بعد جميع المؤتمرات الصهيونية الأخرى، فإنها ظلت هي الأخرى تشكل لب قضية وجود ومستقبل وبقاء الفلسطينيين وربما العرب جميعاً، الأمر الذي يجعل من التشبث بها والنضال الدؤوب من أجل الحفاظ عليها حرة ومستقلة مسألة حتمية ومصيرية لا حياد عنها ولا نقاش حولها أو مساومة بشأنها.
وعلى أرضية هذه الحقيقة وإيمان الفلسطينيين بقدسية أرضهم حدثت انتفاضة 30 آذار 1976 المجيدة في الأراضي الفلسطينية التي احتلها الصهاينة عام 1948 وانتفاضتا 1987 و2000 المباركتان في الأراضي الفلسطينية التي احتلوها عام 1967.
ففي 30 آذار 1976 وبعد حوالي ثمانية وعشرين عاماً من المعاناة الشاقة والمريرة التي لا يحتملها بشر ولا حجر، قام فلسطينيو 48 بانتفاضتهم العفوية والسلمية ضد سلطة الاحتلال الصهيوني.
وقد اتخذت تلك الانتفاضة المباركة في حينه شكل إضراب عام ومظاهرات شعبية عارمة عمت مدن وقرى منطقة الجليل شمال فلسطين، فتحت القوات الصهيونية خلالها النار على المتظاهرين الفلسطينيين، مما أدى إلى استشهاد ستة منهم، يقتضي الوفاء لأرواحهم الطاهرة التذكير بأسمائهم، وهم استناداً لمعلومات "الموسوعة الفلسطينية": الشهيد خير ياسين من قرية "عرابة" والشهيدة خديجة قاسم شواهنة والشهيد رجا أبو ريا والشهيد خضر خلايلة من قرية "سخنين" والشهيد محسن طه من قرية "كفركنا" والشهيد رأفت علي زهيري من مخيم نور شمس بالضفة الغربية والذي استشهد في قرية "الطيبة". وسقط إضافة لهؤلاء عشرات الجرحى والمصابين، وبلغ عدد الذين اعتقلتهم قوات الاحتلال الصهيوني في ذلك اليوم أكثر من 30 فلسطيني.
وكما كانت تقتضي أخوة المواطنة واللغة والدم والتاريخ والآلام والأمال المشتركة فقد انتصر فلسطينيو 1967 في قطاع غزة والضفة العربية بما في ذلك أبناء مدينة القدس لإخوانهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 ليمنحوا انتفاضة "يوم الأرض" بعداً وطنياً، كما انتصر إليهم إخوانهم على طول وعرض الوطن العربي بمشرقه ومغربه ليضيفوا للمناسبة بعداً قومياً، وهما بُعدان لطالما افتقدناهما بعد ذلك اليوم المشهود ولم نزل نفتقدهما حتى يومنا هذا!!
وبإجماع المراقبين المحايدين فأن قيام سلطة الاحتلال الصهيوني بمصادرة نحو 21 ألف دونم من أراضي قرى عرّابة وسخنين ودير حنّا وعرب السواعد وغيرها من قرى منطقة الجليل لتخصيصها للمستوطنات الصهيونية في سياق مخطّط تهويد لتلك المنطقة المحتلة كان السبب المباشر لتفجر انتفاضة "يوم الأرض". فحسبما جاء في "الشبكة الإسلامية" فأن تلك السلطة البغيضة كانت قد صادرت ما بين عامي 1948 و 1972 أكثر من مليون دونم من أراضي القرى العربية في الجليل والمثلث، إضافة إلى ملايين الدونمات الأخرى من الأراضي التي سبق الاستيلاء عليها بفعل المجازر والمذابح المروّعة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية الإرهابية مثل "الأرغون" و"الهاجاناة"بحق الفلسطينيين إبان حرب 1948، ناهيك عن عمليات التهجير والإبعاد القسرية التي فُرضت عليهم بقوة الحديد والنار والإرهاب. فانتفاضة "يوم الأرض" لم تكن بنت لحظتها ولا وليدة الصدفة المحضة، بل كانت نتيجة بديهية ومرتقبة لمعاناة الفلسطينيين المريرة والمستمرة التي لم يحتملها بشر من قبل.
انتفاضة "يوم الأرض" التي اندلعت في منطقة الجليل في 30 آذار 1976 وتمددت لتشمل جميع الأراضي الفلسطينية التي احتلها الصهاينة في عامي 1948 و1967 وطال شررها الوطن العربي والعالم الإسلامي على امتدادهما أُخمدت وانطفأت جذوتها في ذلك اليوم. لكن معركة الأرض الفلسطينية المقدسة لم تُخمد ولم تنطفئ جذوتها بعد، وهي متواصلة ولربما بحدة وشراسة أكبر وأخطر حتى يومنا هذا. فسياسات التوسع الاستيطاني ومصادرة الأراضي ما تزال تطارد الفلسطينيين من مدينة إلى مدينة ومن بلدة إلى بلدة ومن قرية إلى قرية ومن حي إلى حي ومن زقاق إلى زقاق ومن معلم ديني إلى معلم ديني، والمخططات العدوانية الجهنمية ما تزال هي الأخرى تُحاصرهم وتعمل على خنقهم والحيلولة دون تحسن أوضاعهم وتطورها. والأسوأ من ذلك كله أن التوجهات والممارسات الصهيونية العنصرية بحقهم، والتي بلغت ذروتها مع التلويح باعتبار كيان العدو "كياناً يهودياً" وتأييد الرئيس الأميركي الأرعن جورج بوش لهذا التوجه أثناء جولته الشرق أوسطية التي جرت في شهر كانون الثاني الماضي، آخذة بالتزايد والتفاقم يوماً بعد يوم، بحيث تجاوزت الأرض التي احتُلت عام 1948 وأصبحت تنذر بقرب حدوث مخاطر حقيقية تمس الوجود الفلسطيني في هذه الأراضي وشرعية هذا الوجود نفسه.
صحيح أن الفلسطينيين واجهوا من المؤامرات ما لا يُحصى ولا يُعد ومروا بمحنٍ كثيرة وكبيرة وتحملوا من الضغوط والآلام ما لم يتحمله شعب فوق هذه الأرض. لكن الصحيح أيضاً أنه لا يوجد بينهم من يرضى أن يُفرط بشبر واحد من أرض الآباء والأجداد، بغض النظر عما إذا كان مرابطاً داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 وعام 1967 أو مشرداً قسراً وبقوة الترحيل والتهجير والترانسفير في ديار الشتات الواسعة، ولا يوجد بينهم من يقبل المساومة على أي من الحقوق الوطنية والقومية الثابتة. ومهما تعاظمت وتظافرت الضغوط والمؤامرات والمحن والآلام التي تنتظرهم وتنتظر أرضهم في قابل الأيام، ومهما شطحت وانحرفت القلة الضالة من الأدوات الرخيصة والمرهونة لإرادة سلطة الاحتلال الغاشمة والإمبريالية الجديدة المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية، يظل الأمل موجوداً، لأن غالبيتهم قد حسمت أمرها وقررت بشكل نهائي أن تكون في جبهة المقاومة والممانعة حتى تحرير آخر ذرة من أرض فلسطين المقدسة.
رحم الله شهداء انتفاضة "يوم الأرض" ورحم كل شهداء فلسطين والأمتين العربية والإسلامية، وكل انتفاضة مباركة وكل ذكرى وطنية مشرفة وأنتم بخير… وإلى لقاء يتجدد إن شاء الله.
إنتهى……