عانت فكرة التوحيد القومي، التي تمتعت بالشرعية التاريخية منذ ميلادها في مواجهة لحظتي التتريك والتجزئة الكيانية الاستعمارية، من عُسرٍ في التحقق المادي منذ انطلقت محاولات تنفيذها في نهاية خمسينات القرن العشرين الماضي. ثم لم يلبث ذلك العُسر ان تفاقم مع الوقت منذ انهيار تجربة الوحدة المصرية – السورية وفشل "محادثات الوحدة الثلاثية" وولوج "اتفاقات الوحدة" طَوْرَ الارتجال والاستعمال السياسي الدعوي في الداخل لمصلحة النظام. ولم تكن الفكرة الاسلامية الجديدة – فكرة العالم الاسلامي – قد أخذت في الظهور والاستخدام في مواجهة الفكرة القومية العربية (بعد هزيمة 1967)، حتى كان الاستقطاب السياسي العربي الرسمي حول مطلب الوحدة العربية قد بَلَغ مستوى من الحدة أنتج اصطفافات حيالها: بين مدافع عنها يحسبها افقاً للأمة للخروج من التأخر والتجزئة والهزيمة، ومناهضٍ لها تحت عنوان طوباويتها او عدم واقعيتها السياسية .
منذ عقد السبعينات الماضي، تناقصت اعداد المؤمنين بفكرة التوحيد القومي داخل النظام العربي من دون ان يتزايد جمهور المؤمنين بها من القوى الاجتماعية والشعبية، وتكاثرت اعداد المتراجعين عنها في ذلك النظام من دون ان تتناقص اعداد غير المكترثين لأمرها في الجمهور شيئاً فشيئاً، خرجت الفكرة من حيّز المشروع السياسي الى حيّز الخطاب السياسي: الصادق او الايديولوجي. وفيما كانت تترسخ الفكرة الوطنية النهائية (او القطرية في خطاب قوميّ مشرقي). بدا كما لو ان الردّ على فكرة الوحدة العربية ممكن من خلال فكرة الوحدة نفسها، ولكن هذه المرة ليس بحسبانها وحدة العرب اجمعين، بل "وحدة" ابعاض منهم يجمعهم الانتماء الى الاقليم الجغرافي نفسه. وهكذا ولدت التجمعات الاقليمية في بداية عقد الثمانينات ونهايته، وأحيط ميلادها بموجة من التهليل ومن التبشير بتجربة في التعاون جديدة قيل انها (هي) ما سيؤسس لوحدة عربية حقيقية مختلفة عن تلك التي بشّر بها القوميون والناصريون وانتهت الى اخفاق.
لكن ازمة الخليج وتدمير العراق وحصاره أتى على ما بناه غير القوميين من "وحدات" (تجمعات اقليمية). إذ سرعان ما قضى تحت دمار الحرب "مجلس التعاون العربي"، فلحق به "اتحاد المغرب العربي". اما "مجلس التعاون الخليجي"، فلم يتقدم كثيراً في مشروعه نحو الاندماج الاقليمي وخاصة مع بداية مدّ فكرة "الشراكة" الاميركية مع دوله. ثم لم تلبث الروابط الاقليمية العربية التقليدية او الموروثة ان بدأت – هي نفسها – في التمزّق امام زحف منظومات اقليمية مفروضة من خارج على المنطقة من طراز "نظام الشرق الاوسط" و"النظام المتوسطي" وما أشبه ذلك.
استيقظنا في مطلع هذا القرن الجديد على حصيلة ثقيلة من الخسارات الصافية في مضمار مشروع التوحيد العربي: بدأت بخسارة تجربة التوحيد الحقيقية في تاريخ العرب المعاصر (الوحدة المصرية – السورية)، من دون ان تنتهي بخسارة تجربة التعاون الاقليمي وأطره المؤسسية، مروراً بتآكل الهاجس الوحدوي، وتراجع ايديولوجيته السياسية، والضعف الحاد الذي اصاب القوى التي حملته مشروعاً سياسياً، وتناقص قاعدة جمهوره الاجتماعي.
لكن الاسوأ من ذلك كله والاكثر فداحة وخطباً هو ان الدولة القطرية التي اريد لها ان تكون اطاراً كيانياً وبديلاً من اي مشروع كياني توحيدي لم تعد قادرة على ان تضمن لنفسها ان تكون اطاراً نهائياً بعد إذ بدأ التشقق يدبّ في بنيانها نتيجة ما تولد داخلها من تناقضات وصراعات ذات طبيعة عصبوية (طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية) من نوع ما يجري في العراق والصومال والسودان ولبنان!
امام هول ما يجري اليوم في هذه المجتمعات العربية من وقائع التفكيك والتفتيت الذاهبة نحو توليد كيانات عصبوية انشقاقية جديدة (ولو تحت عنوان فيديرالي)، نقطع الشوط سريعاً الى طور من التجزئة جديد: تجزئة ما جزأه الاستعمار سلفاً واراده في شكل دويلات لا قدرة لها على البقاء حيّة بامكاناتها الذاتية! واذا كانت التجزئة الاولى قد انتجت عصبيات وطنية (قطرية) او كان بعضها احياناً سبباً لتلك التجزئة، فان الطور الثاني من هذه التجزئة انما يستثمر المخزون العصبوي الاهلي ليعيد تصنيعه في صورة عصبيات فرعية (قروسطية) تبحث لنفسها عن كيانات على مقاسها! والنتيجة: يهبط مطلب الوحدة عن مستوى قامته الى حدود سقف الدولة القطرية نفسها ليأخذ شكل دفاع عن هذه الدولة… على سوءاتها!
ربما طاب لكثيرين، ممّن جهروا طويلاً بالعداوة لفكرة الوحدة العربية، ان يروا في اخفاق تجارب التوحيد القومي دليلاً على تهافت الفكرة ذاتها وليس فقط على تهافت محاولتها او تجربة تحقيقها. لكن هؤلاء الذين ظلوا متربصين طويلاً بالمشروع القومي، متسقطين أخطاءه او عثراته للانقضاض عليه، سيكون عليهم ان يفسروا لماذا تتعرض الدولة الوطنية (القطرية) – التي كانوا من عَبَدتها – للتفكيك والتفتيت والتقسيم هي ايضاً؟ كان يسعهم ان يقولوا بقدر هائل من اليقين ان وحدة عربية غير ممكنة لأنها محض خرافة ايديولوجية تختلق كياناً وهمياً وتفترض أمة واحدة في مواجهة الحقيقة الوحيدة التي تتمتع بالصحة في رأيهم وهي وجود وطنيات متباينة وشعوب مستقلة الهوية عن بعضها تبرّر للدولة القطرية قيامها.
هل في وسعهم ان يفسروا اليوم لماذا تنفجر هذه الوطنيات والهويات من الداخل وينقسم الشعب على نفسه الى شعوب وقبائل وطوائف ومذاهب يقاتل بعضها بعضاً وكأن رباطاً او وشيجة ما قاما بينها يوماً، وكأن وطناً ما جَمَع بينها قبلاً؟!
إن التجزئة مسار مترابط الحلقات: تضرب العام فيتداعى لها الخاص، وقد تستعمل في تجزئة الخاص الموارد عينها التي استعملت في تجزئة العام (العصبيات والهويات الفرعية)، ولا سبيل الى ردّ اخطارها الا بالمزيد من التمسك بفكرة التوحيد – الوطني والقومي على السواء – لأنها وحدها العاصم من المزيد من التمزيق والتقسيم، وإن اخطأنا التوحيد، فعلينا ان نجرّب ثانية… وعاشرة.