حقائق وأوهام
مقدمة
منذ شرعنا بمقاومة الغزو الصهيو- امريكي – ايراني للعراق ، ونحن نعلن هويتنا البعثية بصوت عال ، مع اننا لم نفعل ذلك اثناء حكم البعث ، ونتمسك بها حد الاستشهاد، بصفتها منار هدايتنا وصوابنا في عالم مظلم وظالم ، اخذنا نتلقى رسائل كثيرة تسأل عن البعث وهويته وميزاته وحقيقته ، لان البعث تعرض لمسلسل اكاذيب شوهت صورته لدى البعض ، او لان بعض البعثيين قصروا في واجباتهم .
وكانت اكثر الرسائل اثارة لاهتمامي تلك التي تلقيتها من اشخاص في المغرب العربي من الجزائر والمغرب بشكل خاص . احد الاشخاص يقول لي انه معجب بالبعث ومقاومته المسلحة للاحتلال ، ولكنه يتسائل بصدق : لاجل تسهيل انضمام الملايين العربية والاسلامية الى البعث لانها تحترمكم وتحبكم وهي تشاهدكم تقاتلون الاحتلال الامريكي للعراق لم لا تبدلون اسمكم من حزب البعث العربي الاشتراكي الى حزب البعث العربي الاسلامي ؟
واخر يسألني ان ازوده بكتب عن البعث ، خصوصا عن مفهوم العلمانية لديه ، لانه فوجئ بنهوض هذا الحزب المقاوم وشجاعة مناضليه وعدم ارتداد اي منهم رغم اغتيال الاف البعثيين والتصفيات الجسدية التي يتعرضون لها في ظل الاحتلال ، وصفة البطولة البعثية هذه هي صفة لا يتمتع بها الا مؤمن بالله وبوطنه وقداسة قضيته . ورغم انني اجبت على هؤلاء برسائل شخصية الا انني قررت منذ اكثر من عامين ان اكتب عن البعث لاعرف اولئك العرب به ، اضافة لتثقيف جيل جديد كامل انخرط في البعث بعد الغزو وهو يتالف من الاف المجاهدين المقاتلين في العراق ، والذين يحتاجون لمعرفة فكر البعث الحقيقي وليس فقط معرفة انه حزب شجاع ومقاتل . لقد تعرضنا نحن البعثيون لاشرس حملة تصفيات جسدية لكن الحملة الاخطر كانت حملة تشويه هوية البعث والتي قامت بها اطراف عديدة في مقدمتها امريكا واسرائيل وايران ، اضافة لجماعات مضللة او جاهلة لم تعرف البعث الا بالواسطة ! سامح الله هذه الجماعات المضللة وهداها بنوره لرؤية الحق البعثي .
ظهور الحق : سقوط مؤامرة الشيطنة
بعد 350 عاما من الحكم عليه بالاعدام نتيجة اتهامه بالهرطقة ، وهي تهمة تكفيرية من الطراز الاول ، اعترفت الكنيسة بان غاليلي غاليلو العالم الكبير كان محقا وان الكنيسة كانت مخطئة ، وقدمت اعتذارا لعظام غليلو بعد 350 عاما على خلوها من اللحم ! كان غاليلو قد اكد ان الارض ليست مركز الكون وانما تدور حول الشمس ، وكان تابو ( المقدس الذي لا يمس ) الكنيسة انذاك هو القول بان الارض هي مركز الكون ، وفسرت الكتاب المقدس على نحو يخدم هذه النظرية وكفَّرت غاليلو وحكمت عليه بالاعدام بسبب اصراره على نظريته العلمية ، والان وبعد 350 عاما تعتذر الكنيسة وتعترف بانه كان على حق وكانت هي على باطل ! والبعث تلك الحركة الانقلابية التاريخية التي هزت القرنين العشرين والحادي والعشرين بافكارها وحيويتها وتميزها باهداف تديم وجودها لقرون وربما لالاف السنين ، تعرضت الى ما يشبه ما تعرض له غاليلو من سوء فهم او تعمد اساءة الفهم من (كنائس) العصر ، السياسية والدينية والعلمانية ، في الوطن العربي ثم في العالم والتي تعمدت شيطنته ، بتلفيق سلسلة اكاذيب وسخة ، كما شُيطِن غاليلو للتمهيد لاعدامه .
لكن كان هناك فرقا جوهريا بين غاليلو والبعث وهو ان غاليلو كان فردا حمل رسالة علمية لوحده فجاء الحكم بتكفيره من الاصولية الدينية المتطرف ليضع حدا لوجوده الشخصي، بينما البعث حركة تاريخية ، قبل ان تصبح حزبا سياسيا ، لها مؤمنون بها على امتداد الوطن العربي ، حملوا رسالتها الانسانية الخالدة ( خلود تطور المهام التاريخية وانجازها ) ، لذلك فان حركة البعث ، التي انتجت حزب البعث والناصرية ، استمرت بفضل توالي المؤمنين بها ، فكلما أفُل جيل بعثي تقدم جيل اخر يحمل الراية البعثية لتستمر في العطاء الثر وتستمر في التحدي لاعداء الامة من الرجعيين والقوى الاستعمارية والصهيونية العالمية .
لقد عاد البعث الى ساحة النضال علنا ، بعد حوالي اربعة سنوات من النضال السري الشاق جدا ، رغم ابادة الالاف من مناضليه على يد الاحتلال الامريكي وعصابات وفرق الموت الفاشية الايرانية ، ورغم وجود الاف اخرين في سجون الاحتلال ، عاد البعث يدق ابواب حرية العراق واستقلاله كبلدوزر يزيل الانقاض لاقامة عمارة المستقبل الوضاء بفضل مقاومته المسلحة للاحتلال، هو واشقاءه المجاهدين غير البعثيين ، والتي مرغت انف امريكا في وحل الهزيمة . والسؤال الجوهري الذي اخذ يفرض نفسه بقوة بعد كل ما حصل هو : ماسر استمرارية البعث وجاذبيته رغم كل محاولات الشيطنة التي تعرض لها من قبل امريكا واوربا وانظمة عربية وايران ؟ ان السر السهل الفهم والاكتشاف هو تجسيد البعث للاتحاد الخلاق بين اربعة مفاهيم هزت القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين وستهز بقية هذا القرن وهي : توليفة القومية العربية والحرية والاسلام والاشتراكية . بفضل هذه المفاهيم المترابطة صعد البعث الى قمة مجد النضال وحقق ، عندما استولى على السلطة في العراق ، ما لم يحققه اي نظام عربي او عالمي على الاطلاق من انجازات عظمى خلدتها الاجيال ، من بينها أزالة الفقر تماما وتحقيق الرفاهية لكل العراقيين وليس لفئة منهم ، وكان لها ابلغ الاثر في توفير حزام امن شعبي حول البعث ، بعد اسقاط الاحتلال الامريكي لنظامه الوطني التقدمي ، مما مكن الحزب من اشعال اعظم مقاومة مسلحة في التاريخ الانساني كله هي المقاومة الوطنية العراقية المسلحة .
ما هي معاني ومضامين هذه الكلمات الاربعة ؟ وهل هي تشابه نفس الكلمات من حيث المضمون لدى غيره البعث من الفئات السياسية ؟ ما معنى القومية في البعث ؟ وما هو تعريف الحرية في التراث البعثي ؟ وماهي اسلامية البعث ؟ وهل اشتراكية البعث تشابه الاشتراكية الماركسية – اللينينية ؟ اننا عندما سنجيب على هذه الاسئلة فاننا سنساهم في التذكير بمنطلقات البعث الاصيلة والاصلية من اجل توضيح مسار البعث في القرن الحادي والعشرين استنادا الى ما وضعه القائد المؤسس العبقري الكبير والمجاهد العظيم احمد ميشيل عفلق، وما اضافه قادة الحزب ومنظريه لفكر الحزب وممارساته ، منطلقين من تكييف عصري لمنطلقات البعث ، ليس بمعنى تغييرها ، فهي اداة عمل ثابتة في مراحل تاريخية كاملة ، بل بمعنى تفسير قوانين العصر الجديد في ضوء المنطلقات الاساسية للبعث والتي وضعت بالدرجة الاولى لتدوم قرونا ، وليس سنوات كما هي حال الاغلبية الساحقة من الاحزاب العابرة .
وهنا لابد من لفت النظر الى ان فكرة ( التكيف مع العصر ) ما هي الا خداع وابتزاز سايكولوجيين هدفهما تحقيق انحراف عن المبادئ ، لان التكيف مع ضرورات مرحلة من تطور الفساد العالمي والاقليمي فعل انتهازي وردة حقيقية لا تقع في فخها الا الاحزاب الطارئة ، وتناس تام لحقيقة ان البعث حركة تغيير جذري وانقلابي شامل لواقع الامة الفاسد والشاذ ، وتأسيس بديل له وليس التكيف مع متطلبات الواقع الفاسد مع ترقيعه . لذلك فان البعث لا يتكيف مع الانحراف عن المبادئ ، ولا تجرفه موجات العصر ، بل انه يتفاعل مع الانجازات العلمية والتكنولوجية ويعدل هوامش مساراته الكبرى ، انسجاما مع سنة التطور ، دون المس بجوهر مبادئه ، كما تتجسد في ينابيع البعث وهي القومية والحرية والاسلام والاشتراكية .
اننا اذا راجعنا وتراجعنا عن الاشتراكية والحرية والقومية والاسلام ، نزولا عند حاجات انية ، او موضات تجتاح الهضاب ، فان هويتنا العربية الاسلامية التقدمية تكون عرضة للضياع ، كما اننا نمهد لتحولنا من حزب يحمل رسالة تاريخية عظمى يستغرق تحقيق اهدافها عقودا وربما قرون من الزمن ، الى حزب اني قد يتوسع في ظرف ما لكنه يزول حتما بعد حين . والان نواجه حملة اجتثاث البعث ، فكرا قبل التنظيم ، لان تشويه الفكر يفقدنا البوصلة التي تحدد مسارنا التاريخي ويفضي الى قيام بعث بلا روح البعث ولا يختلف عن الاحزاب الرجعية والالحادية والقطرية والشخصية . وفي مرحلة اجتثاث الفكر البعثي ، وهو اهم اهداف الاحتلال الصهيو- امريكي – ايراني للعراق ، نجد انفسنا كبعثيين امام نقطة البداية ، اذ علينا ان نؤكد هويتنا القومية الاسلامية الاشتراكية ونحفر الخنادق الحصينة حولها لمقاومة ليس الجيوش المحتلة فقط بل لمقاومة الغزوات الايديولوجية قبل ذلك ، التي تستبطنها تيارات مدمرة كالطائفية والعرقية والعصرانية المنفلتة من اي ضابط قيمي والتي تصدرها لنا امريكا واسرائيل وايران.
ان البعث حركة تاريخية انتجت حزبا جماهيريا ، اصبح الاكبر والاوسع جماهيرية في الوطن العربي ، والارسخ جذورا وقدرة على مقاومة عمليات التصفية الجسدية التي تعرض لها مرارا واخطرها بعد احتلال العراق من قبل الصهيونية الامريكية وايران ، نتيجة الاندماج التام بين وجوده كحزب محدود بالتنظيم مهما كبر و كحركة تاريخية مفتوحة على المستقبل ، مع احتفاظ الحركة البعثية بخصوصيتها الايديولوجية ونقاوتها المبدأية التي اصبحت مرجعا للبعث الحزبي الممارس يعود اليها كلما اربكته الممارسة في بيئة خطرة وتنطوي على التباسات قد تكون مدمرة للاصل . ولهذا فان البحث في البعث فكرا وسلوكا يتطلب التنبيه لاهم مميزاته التكوينية والتي اصبحت النبع الصافي لتجدده وشبابه الدائم وتجاوزه لمحن التصفيات الجسدية والفكرية والانشقاقات غير المبررة التي تعرض لها .
وقبل ان نبحث في الفكر علينا ان نوضح مسالة مهمة وحيوية وهي ان اخطاء البعث سواء في السلطة او خارجها هي نتاج طبيعي للتكوين الاجتماعي للحزب كحركة بشرية تتشكل من بشر خطائين بالطبع ، اضافة لقانون مطلق يتحكم بكل من تصدى لاحداث تغيير تاريخي كبير في مسار البشرية وهو الخبرة والتي لا تأتي من فراغ بل من التجربة الحية ، وليس من بطون الكتب مهما كانت هذه الكتب عظيمة ، وهي لذلك ، اي الخبرة ، تتشكل تدريجيا وتبدأ بالحد من الاخطاء البشرية وتشخصها كلما تراكمت وتعمقت . لهذا نقول بشجاعة الفرسان نعم كانت لنا اخطاء كثيرة لكنها اخطاء بشر وهي ، اذا قورنت بالانجازات ، فانها تبدو محدودة وثانوية وطبيعية . لقد كنا بنائين ومنجزين عظام لافضل تجربة حكم في الوطن العربي ، لعدة اسباب منها ان البعث كان اول من ازال الفقر والامية وجعل الطب والتعليم مجانيين ووفر الامن والامان للمواطن ، وحرره من الخوف المادي من الغد ، وانشأ جيش العلماء والمهندسين ، وامم النفط وجعله في خدمة الشعب العراقي وفقراء العرب …الخ ، وقبل هذا وذاك اصبح البعث اول من بطح امريكا ، وهي تنفرد بحكم العالم ، واطلق رصاصة الموت على مشروعها الامبراطوري .
وبهذا المعنى فان التجربة البعثية التي ابتدأت عام 1963 باستلام السلطة في العراق ثم في سوريا كانت فقيرة انذاك ، وتضافرت هذه الحقيقة مع الاثر الذي تتركه التحديات الاتية من الخصوم والمنافسين والاعداء ، فنتج عن ذلك مسلسل من العمل التجريبي الغريب عن الحزب بعضه صائب وبعضه الاخر خاطئ . ما نريد تاكيده هو ان الحركة التاريخية ، ومهما كان للافراد دور عظيم في انشاءها وتطويرها ، تبقى ملك الجماهير والتاريخ وتسير وفق اليات ذاتية مستقلة عن الافراد ، وتنحو منحى العودة للينابيع الاصيلة والاصلية كلما اجبرتها تجارب الحكم على دخول مسارات غريبة عنها . لذلك فاننا لاننظر للبعث من زاوية انجازاته العظمى فقط او اخطاءه فقط بل أيضا من زاوية انه حركة تاريخية تقترن اليوم بطلائع مناضلة معينة لكنها غدا ستزول وستبرز من رحم الحزب والمجتمع طلائع اخرى تحمل الراية وتواصل السير في طريق البعث مهتدية باهدافه المقدسة نافضة عنه الخدر وغبار المعارك والبناء ومتمسكة بالفكر البعثي التأسيسي .