أحد الأصدقاء في دولة عربية شقيقة عانت من مرارة الانقسام الاجتماعي والتناحر الأهلي الطائفي، ودفع شعبها أثماناً مكلفة من غياب الاستقرار وضياع فرص التطور والتنمية، هذا الصديق المهموم بقضايا الأمة، وأحد القلقين على مصير أقطارها، في ظل تصاعد «الحراك الشعبي» أو ما يطلق عليه بـ «الربيع العربي» وتعدد زوايا الرؤية والتعامل مع هذا الحراك، سواء من جانب المنخرطين فيه من الداخل، أو المشاهدين له من الخارج… كانت البحرين باستمرار حاضرة في وجدان وتفكير صاحبنا هذا، بحكم ما يحمله من مودة وعاطفة خاصة لهذا البلد، ولما يعرفه عن شعبها من نزوع دائم نحو النهوض والتقدم، والتمسك بقيم الحرية والعدالة، والتطلع إلى بناء دولة وطنية مدنية متحضرة يتجاوز بها ومعها حالة «العجز» الديمقراطي الذي عانت منه البلاد عقوداً طويلة.
في آخر اتصال مع هذا «الصديق» كان كعادته مشحوناً بالقلق ومسكوناً بالخوف رأيتهما في طبيعة وشكل تساؤلاته حول آخر تطور الأحداث في البحرين، كيف لا، ونحن نعرف أن الأسئلة لا تكثر إلا في أيام الأزمات، وأن الوضع في البحرين قد تحول إلى علامة استفهام كبيرة؟
إلى أين أنتم ماضون بوطنكم؟ وكيف تقرأون المشهد السياسي وطنياً وإقليمياً؟ ما هي توقعاتكم حول الحاضر والمستقبل؟ ألا تخشون من تفاقم الصراع الطائفي، وتحوله إلى حرب أهلية؟ ما هي رؤيتكم حول سبل الخروج من هذه الأزمة المرعبة؟ التي تزداد تعقيداً يومياً بعد آخر؟ وهل يمكن لتقرير لجنة تقصي الحقائق المنتظر صدوره في الشهر المقبل، أن يكون بوابة للحل، أم يتحول هو الآخر إلى جزء من الأزمة؟ خاصة مع انسداد كل الآفاق في وجه الحلول السياسية، نظراً لغياب المرونة والواقعية من جانب أطراف الصراع الرئيسية؟
كان لابد من الإجابة الموضوعية بعيداً عن منطق التفاؤل أو التشاؤم، وكان لابد أن تكون الإجابة بمنطق المواطنة لا منطق السياسية؟: إن ما تزخر به الساحة البحرينية حالياً هو مزيد من الانتكاسات السياسية، والاحتقانات الاجتماعية، ومزيد من الفرز الطائفي، والاصطفاف المذهبي، وإن تكوينات ما قبل الدولة (الطائفية، القبلية، البنى التقليدية)هي سيدة الموقف، وهي من يحكم ويحرك الحياة السياسية في البلاد! في الجانب الآخر من الضفة في هذا المشهد، هناك هواجس تتضاعف، ومخاوف تتنامى عند عامة الناس من حدوث تطورات دراماتيكية سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي، قد تحمل معها هزات بنيوية خطيرة (سياسية واجتماعية) تزيد من قتامة الوضع السياسي والاجتماعي؟
باختصار إن المشهد السياسي في البحرين على درجة عالية من الغموض ويبعث على القلق، كما إنه مشرعاً أمام احتمالات كثيرة، فنحن اليوم أمام واحدة من أغرب وأعقد المراحل السياسية والوطنية في تاريخ البحرين الحديث، ومع مرور الوقت تتكشف الكثير من الجوانب السلبية والخطيرة التي تزيد من غرابة الوضع في البحرين! ولعل أحد هذه الجوانب، التي لم يكن أحد يتصدرها أو يصدقها، مدى هشاشة بنية المجتمع البحريني، وضعف مستوى الاندماج الوطني بين مكوناته، خلافاً لما هو شائع ومعروف، فقد كشفت هذه الأزمة كم كان المجتمع البحريني متآكلاً، ومنخوراً من الداخل بفعل الانتماءات الطائفية، فقد رأينا نخب تتساقط أمام أعيننا تبتلعها أمواج الطائفية العاتية، وثلة أخرى لم يعد همها ودورها سوى الغوص في بطون التاريخ، واستدعاء كل ما يمزق الحاضر، ويبقي نار الخلافات مستعرة، وثالثة قد وجدت نفسها بمحض الصدفة تتصدر المشهد السياسي والإعلامي، ولأنها تخاف خسارة هذا الوضع راحت تتوسل كل أساليب «الكذب» و «النفاق» وامتهان خطاب طائفي موتور و «مبتذل»يتغذى على «السباب» و «التخوين» واختلاق القصص وتلفيق الروايات دون وزاع ديني أو أخلاقي.
وليس هناك أي تفسير لهذا الوضع الشاد والغريب سوى غياب الكيان السياسي الوطني الجامع (الدولة الوطنية)وأن هذا الإطار الذي نطلق عليه مجازاً بـ (الدولة) لم يكن في واقع الحال سوى طبقة رقيقة هشة تخفي وراءها قوة حضور واستمرار كل التكوينات والعصيات الطائفية والقبلية، وما يضاعف من خطورة هذا الوضع، أن هذه التكوينات «المعاندة للتطور» كان وجودها مطلوباً لغايات سياسية يتم استدعاؤها عند الحاجة، سواء لتأمين دعم وإسناد بعضها، أو تحريك بعضها ضد الآخر، كما تجلى هنا بكل وضوح في الأزمة الأخيرة!
وعند هذا الحال المؤسف والمزري الذي وصلنا إليه، وأصبحنا جميعاً أسرى له، نكتشف أن كل ما عملناه، وقطعناه طوال أكثر من أربعة عقود والتي كان يجب أن يتحقق معها الاندماج الوطني والانسجام الاجتماعي، كانت مجرد «أوهام» لا صلة لها بأرض الواقع؟ فقد عجزنا طوال هذه السنوات عن خلق كيان «قانوني» و «دستوري» ناجح، كان يمكن له أن يتعامل مع أزمتنا الراهنة وتداعياتها، بشكل أكثر وعياً ونضجاً! ولكن المؤسف أن كل ما كان يجري هو عبارة عن «مشاريع» فوقية تحركها أهداف سياسية وإعلامية دعائية، على حساب أولويات الاندماج الوطني.
إن أحد أسباب هذا الوضع، يعود إلى الحضور الملتبس للدولة في حياة البحرينيين، فقد اعتدنا الحضور الطاغي للجانب الأمني الذي هدفه الضبط والقسر، وضعف الجانب السياسي الذي من مهامه القيادة والتوجيه وخدمة المواطن فعندما تغيب الدولة الوطنية كإطار يستوعب حياة الناس، فالبديل حتماً سيكون «الواجهات الفئوية» والانتماءات الدينية والمذهبية، التي ستأخذ مكان الصدارة باعتبارها الوريث الطبيعي للوحدة الوطنية الغائبة! خاصة مع غياب أو ضمور دور الأحزاب والقوى السياسية الوطنية، وضعف المؤسسات الأهلية، ومنظمات المجتمع المدني، بعد أن جرى ابتلاعها أو تدجينها!
وبحكم التركيبة الثقافية للمجتمع البحريني يمكن لنا أن نفهم كيف يمكن أن يكون دور وتأثير «الجرعات» الدينية والمذهبية في تركيب الهوية الفردية للمواطن البحريني خاصة في فترات الأزمات والاضطرابات على حساب القيم الوطنية العامة، التي يفترض أنها تمثل إطاراً جامعاً للانتماء والهوية، هكذا فإن تراكمات العقود الماضية، ظهرت بشكل كثيف وسريع، وكأنها طفح طائفي على وجه البحرين عموماً، لتزيد من «بشاعة» الصورة التي وصلنا إليها مع الأزمة الأخيرة.
نحن هنا لا نتحدث عن فرضيات نظرية، أو احتمالات مشكوك فيها، إنما عن حقائق الواقع التي نتلمس خطورتها على مستقبل بلدنا، وهو ما يستدعي تحديد سبل معالجة هذا الواقع في أسرع وقت ممكن، والبداية يمكن أن تكون مع خلق المناخ المشجع لروح الولاء للوطن وتحرر المواطن من ازدواج الولاءات، وفي تقديرنا أن قيام الدولة بواجبها، وشعور المواطن بالاطمئنان لحقوقه وعدالة القوانين التي تحرم التمييز وتضمن المساواة، وتحاسب من يثير الكراهية بين الناس، وعدالة توزيع الثروة الوطنية، وإبعاد القلق والخوف عن حياة المواطن وحياة أسرته، وضمان رزقه وحقه في التعليم والصحة والمسكن والضمان الاجتماعي وكذلك حقه في الأمان، من أي استبداد أو جور، أو تعرضه لملاحقة أو السجن والتعذيب والطرد من الوظيفة، وحماية حقه في التظاهر السلمي والتعبير عن رأيه، وأن وجود حكومة ديمقراطية تعتمد هذه الأسس والمبادئ، لابد أن تخلق مواطن يثق بنفسه وبدولته، ويشعر معها بأن الدولة وكل مؤسساتها في خدمته ومن أجل ضمان حقوقه في التمتع بحياة حرة وكريمة وعادلة، نحن هنا نتحدث عن دولة «مواطنة» لا دولة «مكونات» أو دولة «محاصصة» التي يحاول البعض تكريسها، عبر السلوك والخطاب الطائفيين لأن من شأن هذا الأمر أن يبقي الصراع قائماً ومفتوحاً، وخاصة أن سياقات العمل السياسي في الوقت الراهن «كنتاج للأزمة» تساعد على تكريس مفهوم دولة المكونات، بعكس الدولة الوطنية المدنية التي ندعو إليها كونها الضمانة الأكيدة لوحدة البلاد وتماسك نسيجها الاجتماعي، وهو ما يستوجب إعادة صياغة دستور جديد ومجموعة قوانين دستورية أخرى مرتبطة ومكملة له تضمن التعددية السياسية وتحترم الخصوصيات المذهبية.
وبذلك نكون قد وفرنا كل أسباب القضاء على البيئة والبؤر التي تزدهر فيها الولاءات الطائفية والعنصرية، وحمينا الوطن ونسيجه الاجتماعي، وحافظنا على وحدة المجتمع وتماسكه، وبالتالي لم يعد أمام هذا المواطن أية أسباب أو دوافع تجبره على اللجوء إلى طرق وأساليب غير مشروعة أو ضارة بولائه لوطنه، أو لحكومته التي تمثل إرادته، وتعكس حرية اختياره.
أما في حالة غياب الدولة الوطنية «الجامعة» فإن المواطن سيشعر حتماً بالخوف والقلق، في مجتمع مضطرب سياسياً واجتماعياً، ما يجعله يعتقد واهماً أن الطائفية هي المنفذ أو الطريق الوحيد لحمايته، وهذه بداية الانزلاق للوطن والمواطن نحو الهاوية السحيقة