يعقوب سيادي
شتان ما بين الإنسان العابث بالوطن وذاك الإنسان الباني له، والفرق بينهما كما بين عبث اللغة، وبين يقين الوجدان، فمن ينطق بما في وجدانه، لا يَزلُّ لسانه، بخلاف ذاك الذي يلاعب وجدانَه، عبثٌ من لغته وعقله.
وإذا أردت معرفة معدن الرجل، فاستحث وجدانه في غياب عقله، كما في حالات الاختلاف، فقط في هذه الحالة يأتيك أصل معدنه، إن كان سابّاً كارهاً، أو كان ناصحاً وادّاً.
اتفق طرفان على تعقد الأزمة السياسية ووجود استئثار بالسلطة، وإجراءات عنيفة قاتلة، متجاوزةً بذلك كل القوانين والحقوق، وأن البدء بالعنف استمر سنوات، قبالته صَبَرَ الناس وسالموا، فأساء عنفها بالمآسي والآلام، من التجويع والاعتقال، وخنق الأنفاس وإزهاق الأرواح، فأيتَمَ وأثكَلَ وأرمَلَ. وحينما نتج عن ذلك عنف مضاد في نواله، ضعيف قباله، افترق الإثنان إلى:
أمين لنفسه ووطنه وشعبه، فاتَّبع قول كلمة الحق، بما جاء منه تعبيراً وجدانياً، لا يحتاج فيه إلى إشراك اللغة والفلسفة، فأبان أن البادئ بالعنف أعنف، فوقف موقف الرافض للعنف، مع تبيان درجة جرم ومسئولية كل طرف. ونحى الثاني منحى مساواة الجاني والمجني عليه، وكأنه يلوم المعتدى عليه، لماذا يقاوم المعتدي، ولا يعترف بذلك بل يغطيه بعبث اللغة وبهرج الفلسفة اللعوب، فيعلن موقفه بتحميل الطرفين، ذات الدرجة من الجرم والمسئولية، فيكون بذلك مثل صاحب قدم هنا وقدم هناك، ما بين مُتَباعدَيْن يفصلهما ماءُ بحر، ليختار في اللحظة المناسبة لمصلحته، إلى أي قدم يضم الأخرى، هذا إذا ما لام منازعاً خروج الروح، تشبثه بسدل قاتله.
ومن العبث السياسي أيضاً ما يمارسه البعض على حسني النية وأصحاب الطيبة من الناس، أولئك البعض المقرونة عقليتهم بوجوب الزعامة والسيادة لهم، إلا أن ضرر عملهم، من حيث لا يحتسبون، شديد السوء بالنتيجة، فترى هؤلاء يستجيبون لما تروّجه السلطات من إشاعات مقصودة، بما تجعلهم يبدون أنهم مرعبون من فوبيا مرسومة في خيالهم، لأن موضوعها لا أساس مادياً له، بما يرسمون له من حيّز أكبر حتى من الوطن وأكبر من تعداد مواطنيه. لذا يتسارع هؤلاء إلى التنادي فيما بينهم، في أضيق عدد محدود ومنسجم إلى حد ما، فالمهم ألا تخرج الزعامة خارج أشخاصهم، وهم بذلك يتوازعون مناصب قيادة يرسمونها مسبقاً، ثم تبدأ عملية نسج الخيوط، في تشكيل مجموعة تواصل في الشبكة العنكبوتية (النت) مثلاً، وهو مفيدٌ جداً خصوصاً للأهداف قصيرة الأجل، فيطرح من خلالها أحدهم مقترح تنفيذ فكرة، يعرضها على أنها وليدة أفكاره في اللحظة، ويسانده آخر من المجموعة بطريقة دراماتيكية، تداعب جانباً من جوانب المشاعر والأماني الوطنية، المأمونة الجانب من سطوة السلطات، وهكذا يشيع صيت تلك المبادرة، ويبدأ تشكيل الإدارة من الأفراد المعنيين، ولا بأس من اختراق فرد أو اثنين، هذه التركيبة الإدارية، طالما ظلت الغلبة لأصحابها، فلن يطول على المتطفل (من وجهة نظرهم) انسحابه، مع ضمان أن صفاء معدنه، سيمنعه عن إعلان أسبابه، ربما التي آلمته من الآخرين، ولكنه لن يمسّ فكرة المبادرة المصطنعة بالنقد، لئلا يُحتسب من الحاسدين، على الموسومين منذ ولادتهم، بحق القيادة تعييناً من ذاتهم لذاتهم، بمثل مسلك السلطات في تولي إدارة الدولة.