عبد الإله بلقزيز
مثل عاصفةٍ هوجاء، تخرج من الإعصار خروجَ الوليد من رحم الأم، تقتلع المساكن والأشجار، وتَقْلب المراكب والسيارات، وتُغرق القرى والمدن بالسيول، وتفرض على البشر والحيوانات اللوذ بمرابضهم، أو اللجوء إلى أماكن آمنة أبعد، وتعود بالناس إلى عصورٍ بدائية حيث لا كهرباء ولا ماء ولا وسائط نقل غير القوارب الخشبية، أو الأخشاب، أو جذوع الأشجار يتأبطونها ليذهبوا في مجرى الماء، أو البهائم يمتطونها للتنقل من الأماكن المنكوبة إلى أخرى أقل انتكاباً، (مثل هذه العاصفة) أتت عاصفة «الربيع العربي» هوجاء، تقتلع أمامها كل شيء، وتمحو من الأزمان نفيسَها والخسيس، فتجعلها أثراً بعد عين، وتُذْهِب من المكاسب كثيرَها (وهي قليلة)، وتزيد من تعظيم البلاءات (وهي وفيرة)، وتُذهِب من الأنفُس والأرواح ما لا تُذهِبه الطبيعةُ في سوْرة غضبها والجنون، وتحث من المضار، في بحر سنوات معدودات، ما لا تُحْدِثه أحكام التاريخ في أدهر. وبكلمة، أتت عاصفة ذلك «الربيع» تمحو حقبةً من تاريخ العرب-مشرقاً ومغرباً -لتعيد مجتمعاتهم وعلاقات بعضهم بعضا إلى العهود البدائية، حيث شريعة الغاب شريعتهم!
خِلناها، في ابتداء أمرها، واعدة، تَعِدُ بالبهي والجميل، وتزوِد العرب بالأمل في الغد، وتُنجب فيهم ما به ينتقلون من عهود المَذلَة والصَغار والمظلومية، إلى عهدٍ يشيدون فيه صروح الحرية، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الوطنية، والديمقراطية والوحدة الكيانية، والأمن القومي، والمساواة بين الجنسين، والتحرر الثقافي، والكرامة الإنسانية. صَدَحت الأصوات في الشوارع والميادين والساحات العامة بهذه الآمال العِراض، وأنشد المنشدون، وكتب الكاتبون، وغشي الجميعَ شعورٌ قويٌ بأن العرب ضربوا موعداً، هذه المرة، مع التاريخ ولن يُخْلِفوا موعدهم، ولن يَهِنوا أو يفُت طارئ من عضدهم، أو يتعبوا. كل شيء في مشهد العاصفة، في ابتداء أمرها، يشهد بذلك، ألَم يَبْلُغ بهم التصميم أن خرجوا بالملايين، بل بعشراتها، هنا وهناك، كبيرهُم والصغير، كي يطالبوا، بالصوت الجهير، بما كان أشجعُ شجعانهم يتلعثم في النطق به قبل سنين؟ ألم يتركوا بيوتهم لأسابيع وأشهر ليسكنوا الساحات، لئلا يتركوا للسلطة فراغاً تملؤُه بعسسها وعساكرها؟ ألم يتمسكوا بالأهداف والمطاليب فما سلموا بمشيئةٍ غيرِ مشيئتهم، بل إن مشيئتهم عَلَتْ سقوفُها-مع الأحداث-حتى بلغت الذروة؟
حين اهتاجتِ العاصفة، خِلناها ستقتلع أنظمةً طاعنةً في الاستبداد والفساد ثم تخلد إلى الهدوء، فيصفو الجو وتسطع شمسُ عهدٍ جديد، ولكن الأمور فيها جرت مجرىً آخر لم يتوقعه أكثرُنا تشاؤماً، أو احتذاراً، أو كياسةً في الأحكام. ما هي إلا أشهر قليلة حتى بدأنا نحصي خسائر هذه العاصفة، دولٌ تتساقط وأخرى تتفكك، مجتمعات يتمزق نسيجُها الداخلي وتتقطع أوصالها الجغرافية و روابطُها التاريخية، موتٌ فائض عن الحد ودمٌ غزير، فِتَنٌ وحروبٌ أهلية تنبعث فيها منازِع عصبوية بائدة (طائفية ومذهبية وعرقية وقبلية وعشائرية)، اقتصادات تُدمَر وخَصاص في حاجات العيش يتزايد، جيوشٌ تُستنزَف في حروب داخلية مع عصابات القتل المسلحة داخل المدن وفي محيطها، إرهاب يزحف ويتنقل كالعدوى أو المرض الخبيث ليغمُر الجغرافيا العربية من الماء إلى الماء، موارد طبيعية (نفط، غاز) وإنتاجية (مصانع، مخازن) وتاريخية (آثار) تُنْهب نهباً منظماً من الجماعات المسلحة وعصابات التهريب وسرقة الآثار، سمعةٌ للعرب تُمَرَغ في الأوحال، وصورةٌ للإسلام تُلوث باسم الإسلام، ملايين من اللاجئين والنازحين بلا أفق للعودة إلى الديار، جيل جديد يخضع لتجهيلٍ مزدوج: الحرمان من الحق في التَمَدْرُس، أو الخضوع لبرنامج «تعليمٍ» تجهيلي وبدائي باسم الدين، نساء وفتيات قاصرات يقعن في السبْي، ويُتَخذن مَحظيات وجواري، أو نساء للمتعة، مواطنون-من غير مِلة الأكثرية- تُفْرَض عليهم الجزيةُ في القرن الحادي والعشرين!!! عن أي «ربيعٍ»، إذاً يتحدثون؟!
مَن سَرق هذا «الربيع» من أهله، فأخذهُ إلى ضفافٍ أخرى، وقادهُ إلى إنجاب ما هو أسوأ مما احتجَ عليه جمهورُه غِبَ انطلاقته؟ هل كان السطوُ على تضحيات الناس والشباب في الحركات الاحتجاجية والانتفاضات منظَماً ومبرَماً ومقصوداً أم أتى عفواً من شقوق الفراغ، وإذا كان منظَماً ومُبْرماً، فمَن أبرم الصفقة وتشارَكَ في مؤامرة السطو تلك؟ ولماذا تَرَكَ الناسُ ناهبيهم ينهبون ما راكموهُ بالعرق والدم وتضحيات الشهداء والجرحى والمعتقلين؟ أين كان «قادة» المجموعات الشبابية حينما كانت تجري أضخمُ عمليةِ سطوٍ منظم على كفاحات الشعب، ولماذا ارتضوا أن تنتقل السلطة إلى غيرهم وهم كانوا بِرَفْضِ مصادرة «الثورة» متمسكين؟ ولماذا استسهل بعضُهم خيار تسليح الانتفاضة بِتعلة الدفاع عن النفس من بطش النظام، وهل كان ذلك البعضُ يخامره الظن -حقاً -في أن هذا الخيار مَسْلك سالكٌ نحو تحقيق هدف «الثورة» سريعاً؟ وكيف سوغت معارضاتٌ لنفسها التعاوُن مع الأجنبي لإسقاط أنظمتها متعللةً بأن الاستبداد أشرُ الشرور، متى كانت «الحرية»، المحمولةُ على ظهور دبابات الغزاة، أعزَ ما يُطلَب من الأهداف وأقدسَ من الوطن؟ وكيف بات لبعض تلك المعارضة لسانٌ يقول إن قوى الإرهاب جزء من «قوى الثورة»…الخ؟!
أسئلةٌ لم يُجَب عنها حتى اللحظة، لأنَ أحداً من المشاركين في الحدث لا يملك شجاعةَ نقد نفسِه، أو وَضْعِ موقفه-على الأقل- موضعَ فحصٍ ومراجعة. كلٌ يحسَب نفسَه على صواب، والآخرون في ضلالٍ مبين، يتقمص الواحد دور الضحية فيما جرى، ليترك لخصمه صفة الجلاد، طريقةٌ غبية للهروب من ممارسة واجب المراجعة، بل فريضة المراجعة. من قال إن الضحية-على فَرض التسليم بأنها ضحية- لا تُخطئ في دفاعها عن نفسها، ولا يذهب بها الخطأ، أحياناً، إلى حد الخيانة: خيانة الوطن، أو خيانة المبادئ الإنسانية؟ الطريق إلى جهنم مفروش بالنيات الحسنة: كما يقال. ومَن قال إن الجلاد-على فرض أنه جلاد-ليست له حيثيةُ تمثيل في المجتمع، ولا قدْرٌ ما من الشرعية في نظر جمهوره الاجتماعي والسياسي، بحيث لا سبيل إلى اجتثاثه إلا من طريق استقدام التدخل الأجنبي، أو المغامرة بأخْذ البلد إلى حربٍ أهلية؟
لقائل أن يقول إننا ما برحنا في لجة موجات «الربيع العربي» التي ما انحسرت بعد، و-بالتالي-لا معنى لمراجعةِ عمليةٍ لم تستقر بعدُ على ملامح وقسمات واضحة. قولٌ مردود من غيرِ مِرْية، إذْ ما الذي عسى أن يخرج من هذا الدمار العظيم للمجتمعات والأوطان والدول؟ نعرف مثل هذا الهروب الخبيث مما ليس منه بد، ونعرف أن مثل هذه المراجعة، التي ندعو إليها، لن تجريَ-إن هي جرت- إلا بعد «هياط ومياط وشفاعةٍ من قريش»، كما يقول المعري، ولكن خيرٌ ألف مرة أن تجريَ اليوم، في معامع هذه المَقْتَلَة الجماعية، من أن تجريَ غداً بعد أن تعود السيوف إلى أغمادها، فقد يولَد منها اليوم ما يحقن المزيد من الدماء، ويحفظ البقيةَ الباقيةَ من المجتمعات والدول.