وقفات المحاسبة في الزمن الصعب
غسان الشهابي
في بداية التسعينات، كانت هناك إحدى الزميلات التي سبقتنا ببضع سنوات في ولوج عالم الصحافة، ولكنها لم تكن تريد أن تصبح موظفة في صحيفة، ولكنها كانت تحمل طموحات عالية، فقالت لي ذات يوم أنها قد تترك الصحافة قريباً لأنها ملّت كتابة المواضيع الموسمية ذاتها، في افتتاح المدارس، الامتحانات، الصيف، السفر، زواج الأقارب، وغيرها من المواضيع التي لم يكن الأفق منفتح على أكثر منها في ذلك الزمان. المشكلة الأساسية لدى تلك الزميلة أن المعطيات والمبررات والحديث والمسوّغات والمنطلقات والنهايات، كلها نفسها، لا شيء جديد يُذكر.
اليوم استذكر هذا الحديث لصدور التقرير السنوي الجديد لديوان الرقابة المالية، والذي بات هو الآخر من المواضيع ذات الطابع الموسمي بعد صدور التقرير الثامن. ففي السنة الأولى لصدوره، احتفينا به جميعاً أيما احتفاء، وكان نشره بحد ذاته نجاحاً كبيراً، وحدثاً عظيماً غير مسبوق. وتوقع الناس أنه بعد ذلك التقرير ستطير رقاب مسؤولين (مجازاً)، وأن عشرات الملايين من الدنانير التي ضاعت وضُيِّعت، إما تعمّداً، أو إهمالاً، أو لقلة إدراك بالقوانين والنظم، وكلها من الموبقات التي تقلقل مقاعد المسؤولين الجالسين عليها، وتدفع المسؤولين إلى تحمّل كامل المسؤولية وتقديم الاستقالة فوراً كموقف شريف من هذا الذي حدث في عهدهم وتحت مسؤوليتهم المباشرة، إلا أن شيئاً كهذا لم يحدث بالمرة، بل كل ما نراه من الجهات الواردة في التقرير، والتي ذهبت بضع ملايين من موازنتها، أي من أموال الدولة، أي من حقوق المواطنين جميعاً، في مسارب ليست هي المسارب الطبيعية؛ ما نراه لا يعدو الردود والتبريرات.
بعض الجهات تلقي باللائمة على ديوان الرقابة المالية، وتقول إن طريقة فحصه للملفات والأوراق غير صحيحة، وبالتالي يستعجل في الوصول إلى النتائج وكأنه يتصيّد الأخطاء ولا يعين على تحسينها، بينما يرى الديوان إن المخالفات تتكرر، بل وتتعاظم ربما، والوزارات التي صدرت في حقها الملاحظات هي ذاتها تقريباً التي يرد ذكرها في كل تقرير.
وبصرف النظر عن وجود لوائح تنظيمية واضحة المعالم خصوصاً في الجانب المالي تتبعها الإدارات المالية في شؤونها اليومية، فإن الأهم من هذا هو الحراك التشريعي والتنفيذي الذي عليه أن يسد هذه الثقوب البشعة في الثوب البحريني. فلا يخفى على أحد حال الاقتصاد المحلي، وحاجة البلاد لكل دينار ليصرف في مكانه، والمسؤولية العظيمة التي يتحملها الجهاز التنفيذي لوضع الأمور في نصابها، والجهاز التشريعي رقابةً وتشريعاً، ومع ذلك فإن المخالفات تترى وتتناسل وكأن الكثير من الجهات قد أمنت العقوبة، عندما رأت أن ليس عليها إلا الصبر لبضعة أيام من بعد صدور التقرير، والانحناء حتى تمرّ عاصفة التصريحات النارية بوجوب المحاسبة، وبأهمية الأخذ على يد المخطئين، والمضي قدماً في مسألة الشفافية والحفاظ على المال العام، وبعد ذلك تعود إلى سيرتها الأولى، بانتظار العام المقبل، وموسم التقرير، وتعاود الجهات نفسها الطريقة نفسها بالحجج نفسها والوجوه نفسها!
في الحقيقة ليست كل المخالفات المالية الواردة في التقرير تعني “سرقة” أو “فساداً” متعمّداً، لأن بعضها أتى لعدم اتباع القانون واللوائح المنظمة لسير الأعمال وتدفق الأموال، أي مخالفات “فنية” كعدم التمرير على مجلس المناقصات والمزايدات، ولهذا الوضع تخريجات كثيرة، ولكن مهما حسنت النوايا فإن السكوت عنها سيفتح الأبواب الخلفية على مصراعيها لنتن الفساد والمحاباة والمصالح المشتركة والمتضاربة. فالأجهزة التنفيذية بها من التشعبات والخبرات المتراكمة في كيفية الاستغلال الشيء الكثير، الأمر الذي لا يحيط به وزير ولا الإدارات العليا في هذه المؤسسات، فتجري الكثير من الأمور من تحت أيديهم وهم لا يعلمون، وإن لا يعفيهم من المسؤولية في المقام الأول عن أي خطأ صغُرَ أن فدُح.
يأتي تقرير ديوان الرقابة المالية هذا العام وسط أحداث مرّت بها البحرين، التقت الإرادات على أكثر من مفصل من مفاصل الإصلاح، وأهمها مكافحة الفساد المالي والإداري، وهذا المفصل حملت لواءه المعارضة والموالاة إن شئنا، وحمله الحُكم والحكومة، وتكرر في التصريحات الذاهبة إلى طرح الرؤى والبرامج في المحكات والمحطات المهمة. البعض يبدأ بمحاربة الفساد، والبعض يجعل من هذه الحرب أمراً مؤجلاً، ومنهم من يضعه في مراتب متأخرة، ولكنه موجود كموضوع على أية حال. التشريعيون يطالبون، والتنفيذيون يطالبون، والمعارضون يطالبون، والموالون يطالبون… حسنٌ، هذا أمر جيد، إذاً: أين هُم المفسدون؟ لماذا يختبئون ولا يعودون إلا أفكاراً وأشباحاً وأموالاً ضائعة، حتى شاعت المقولة “فساد بلا مفسدين”، إذ تقصر المحاسبة عن الوصول إلى أسس هذه الأموال المضيّعة، بينما يعمل تقرير ديوان الرقابة المالية عمل طبيب الأشعة الذي يوصّف الحال، ولكنه لا يجري العمليات الجراحية، إذ هي متروكة لجانب آخر يقوم به، ويعدّل التشريعات الخاصة بالحفاظ على المال العام.
إن سدّ ذارئع الكثير من الأقاويل والتبرّمات والاحتجاجات، بل وأيضاً الشائعات، المستندة على وقائع غير مثبتة، أو إلى تكهنات وتخرّصات، مبدأها هو افتقاد الأخذ على يد من يخطئ ويثبت أنه أخلّ بمسؤولياته وخالف اللوائح والأنظمة؛ هو تحد هذا العام تحديداً، أكثر من الأعوام السبعة الماضية، فالظرف المحلي يشير إلى أهمية إثبات المقدرة الحقة على إدارة هذا الملف البالغ الأهمية، وهو المؤشر الأبرز في إصلاح الكثير من الأوضاع المعوجّة إن علم الناس أن أموالهم محفوظة مصانة، تسير في مساربها الطبيعية، وتصب في البداية والنهاية في خدمتهم إجمالاً، من دون محاباة للقابضين على صنابير الثروات أينما كانوا، صغرت مسؤولياتهم أم تعاظمت، فكلها أموال يهم الناس معرفة ما الذي حلّ بها. إذ أن الفساد المالي والإداري عنوانان متكرران في أيّ حراك ضخم في أيٍّ من البلدان، وهو أيضاً سبب الاستقرار العظيم في أيّ بلد، إذ لا يتماشى الفساد مع الاستقرار أبداً.
إذا أمدّ الله في الأعمار، فإن التقرير التاسع لن يكون بعيداً أبداً عن اليوم، فالزمان في جريانه السريع يمرّ مَرَّ السحاب، لنجد أنفسنا أمام الاستحقاق نفسه، ولن نجد بعيداً تكرر الجهات ذاتها الأخطاء التي وردت في التقرير الثامن وسابقيه، والتصريحات المتشددة والغاضبة، والتلويح بالويل والثبور وعظائم الأمور على من أخل بالواجبات الوطنية الوظيفية… لتزداد مساحة اليائسين.
البلاد: 15 ديسمبر 2011م ، العدد1157