وعد بلفور اغرب وعد في التاريخ الانساني، عندما يعطي من لا حق له في وطن حقا مزعوما، وطرد صاحب الحق الشرعي من وطنه، وتشتيته في انحاء المعمورة، بقيام وطن قومي لليهود، تحت ذريعة اوهام واساطير خرافية، ان اليهود قد سكنوا هذه الارض قبل ثلاثة آلاف سنة.
اساطير خرافية تلك الدعاوي الصهيونية، فلو اعيد تقسيم العالم في ضوء هذه الأساطير والخرافات، لما وجدت اميركا، ولا وجدت دول الاتحاد الاوروبي بأكملها، لان العالم القديم ليس فيه مثل هذه الدول والقوميات، وبشكل خاص فان العمر الزمي للولايات المتحدة لا يكاد يساوي شيئا في عمر الشعوب، الى جانب أن هناك شعب الهنود الحمر، الذي تمت تصفيته بشتى صنوف القهر والذل والقتل والاجرام، كما تم طرد الفلسطينيين من بيوتهم، واحلال غرباء الوجه واليد واللسان مكانهم.
وعد بلفور وعد مشؤوم، داس على كل الأعراف الانسانية والقوانين الدولية، ومزق دعاوي حقوق الانسان، التي يتبجح بها الغرب في مواجهته ضد دول العالم الثالث، ونحن العرب في مقدمتهم، عندما تكون هذه الحقوق في خانة مصالحه، وتخدم اهدافه، اما ان كانت غير ذلك فلا مانع لدى هذا الغرب المتحضر في ان يمارس ابشع انواع الجريمة في حق الانسان.
الشعب العربي الفلسطيني واجه من المعاناة والالم في مواجهة الصهيونية التي ابتلي بها مالم يشاهده شعب آخر في هذا الكون، فقد تمت تصفية الكثيرين من ابنائه، وطُرد آخرون خارج حدود وطنهم، وواجهوا القهر والذل على ايدي الكيان الصهيوني، وعانوا الفقر والجوع والبرد القارس في مخيماتهم، ومن بقي منغرسا في وطنه، يعاني من عنصرية لا سابق لها، ومن حقد لا مثيل له.
وعد بلفور تآمر فاضح على الامة بأسرها، حيث اقام شرخا بين جناحيها في افريقيا العربية وآسيا العربية، لمنع الامة من انجاز مشروعها القومي الوحدوي، ولجعل الكيان الصهيوني اداة عدوان امبريالي مستمرة على عموم الوطن العربي، حيث وجود هذا الكيان الغاصب اعتداء سافر على الامة بأسرها، وتهديد لها في الوحدة والتقدم والنهوض.
وعد بلفور واحد من اسوأ مشروعين ابتلي بهما العرب في هذا العصر من قبل الغرب الامبريالي هما : سايكس بيكو الذي فتّت الامة وجزّأ وحدتها، والوعد المشؤوم الذي اغتصب فلسطين قلب الامة، ومع ذلك فان الذاكرة الفلسطينية والعربية على الرغم مما يقرب من مئة عام على صدور الوعد، الا انه لن ينسى، نظرا لفداحة آثاره وعدوانية الصهاينة الغاصبين الدائمة والمستمرة.
وعد بلفور لا يمكن ازالة آثاره الا باجتثاث العدوان الصهيوني من كامل التراب الوطني الفلسطيني، مما يعني ان لا صلح ولا مفاوضات مع العدو، وان الصراع معه صراع وجود لا صراع حدود، مما يؤكد ان على العرب والفلسطينيين في مقدمتهم، ان يلتفتوا الى تعزيز عناصر الوحدة فيما بينهم، وتعظيم امكانيات المقاومة لديهم، واعداد العدة للخلاص من هذا السرطان القاتل، الذي تمت زراعته في جسد الامة.
فلسطين التي ابتليت بالوعد المشؤوم، وبالاحتلال الصهيوني، لن يكون خلاصها الا بالقضاء على الكيان الصهيوني، ولان هذا الكيان خطر على الامة، ولان فلسطين ملك الامة، فالامة جميعها مطالبة في ان تكون في خندق المواجهة، فالوحدة طريقنا الى فلسطين وفلسطين طريقنا الى الوحدة، والجهاد فريضة عين على كل واحد من ابناء هذه الامة، وكل يملك القدرة في هذا الطريق، ويساهم في الوحدة والتحرير والتنمية.
وعد بلفور سابقة في التاريخ الانساني، وخطأ تاريخي، يجب تصحيح هذا الخطأ التاريخي، ولن يكون الا باعادة المهجرين اليهود الى ديارهم، التي هاجروا منها الى فلسطين، واعادة عرب فلسطين الى بيوتهم واراضيهم، فمن غير المعقول ان يهتم العالم بوطن لليهود، تحت ذرائع واهية قبل ثلاثة آلاف سنة، ولا يعترف بالحق الشرعي للمواطنين العرب من ابناء فلسطين قبل ستين عاما.
العالم الذي يسكت على التآمر الصهيوني عالم مجرم، ومن يقف واياه في خندق العدوان، عدو للانسانية والبشرية، ويساهم في تدمير الحياة على الارض، ولا اخال ان الحياة تستقيم مع الظلم والاجرام، الا في عالم يحكمه الشياطين، وليس هناك من شياطين على الارض، والامبريالية والصهيونية تعيثان فسادا على الارض، فهما شياطين هذا الكون وهم اعداؤه، الذين يسعون لتدميره على رؤوس اصحابه.
يتباكى الغرب على قتل انسان هنا او هناك، وخاصة اذا كان هذا المواطن من رعاياه، ويصم الآخرين بالارهاب، وينسى انه من زرع القتل والاجرام في كل زوايا المعمورة، وهو من يغذي الارهاب ويحصد ارواح البشر، فهاهو في فلسطين والعراق وفي افغانستان، لا يفهم الا لغة القتل والتدمير والتشريد، وديدنه كما قال الشاعر :
قتل فرد عملية لا تغتفر وقتل شعب نظرية فيها نظر
فالامبريالية والصهيونية من شرّع للارهاب، ومن رعاه على مستوى الدولة، واناط بالمجرمين ممارساتهم الاجرامية، في حق الابرياء من بني البشر، ورعى كل النظم والمؤسسات التي تدوس على حقوق الانسان، لتحقيق اهدافه ومصالحه الاجرامية، وليس امام الشعوب المقهورة، والمغتصبة اراضيها واوطانها الا طريق المقاومة.
الاوطان مهجة الروح، فمن لا وطن له لا حياة له؟، ومن لاحياة له لاقيمة له، فالانسان وطن، والوطن هو الانسان الذي يفديه بالمهج والارواح، وما كانت فلسطين الا مهجة الروح العربية، رغم ما عانته من تخاذل في النظام العربي الرسمي، الذي خذلها وخذل شعبها، كما خذل كل القابضين على جمر الحرية والعدالة في دنيا العرب.
وطني ليس قصيدة وانا لست مسافر، فالوطن مسؤولية ودين في عنق ابنائه الذين ينتسبون اليه، فهل ادينا الامانة التي وضعها في اعناقنا؟، وهل كنا في حجم المسؤولية الملقاة على كواهلنا؟، ام اننا خذلنا الوطن، وضاعت آماله وأمانيه من بين ايدينا، وها نحن نلهث وراء من يتخدق في خندقه، علنا نعوّض ما فاتنا، ام ان الرسالة لم تصل بعد، وتحتاج الى زمن قد يطول، وتبقى المعاناة ويبقى الامل.
رغم المعاناة التي يعاني منها الشعب العربي الفلسطيني، ورغم ممارسات القتل والقهر والتشريد، الا ان هذه لن تفت في عضد ابناء فلسطين، ولن تدفع بالعرب للاستسلام امام عدوانية الامبريالية والصهيونية، فما ضاع حق وراءه مطالب، ومازالت جذوة النضال مشتعلة، فالمقاومة هي الطريق الصحيح التي يسير عليها ابناء فلسطين والامة، لاستعادة حقوقهم المغتصبة، وقد تعرضت فلسطين في السابق لعدوانية الغرب، فكانت المقاومة طريق العرب لتحريرها، وان غدا لناظره قريب.
فلسطين قضية العرب المركزية، مما يعني ان على الامة ان تعي ان الخطر الصهيوني ليس على فلسطين فحسب، بل على الامة جمعاء، فوجود فلسطين في قلب الوطن العربي، فان احتلالها يعني منع وحدتها، ولان الاهداف الصهيونية التوسع والعدوان، فان قيام الامة بنهضتها وتنميتها يعني مواجهة عدوانية مع هذا الكيان الغاصب، ولان الصهيونية تعيش في بقائها على تجزأة الامة الامة وضعفها، فانها خطر على عموم الامة، مما يفرض على الامة ان تكون في خندق واحد، وان تؤمن ان الصراع العربي الصهيوني صراع وجود لا صراع حدود، فلا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بالوجود الصهيوني، ولا معاهدات ذل وهوان واستسلام ولا تطبيع، لان ذلك يخالف الاعراف والقوانين الانسانية، ويدوس على حقوق الامة ويدنس مقدساتها.
فلسطين امنا ووحدتنا وحريتنا وتحريرنا، وهي تنميتنا التي نسعى اليها، من اجل مستقبل ابنائنا، فهل نحن عازمون على ان نبني مستقبل ابنائنا بالوحدة والحرية والتنمية، من خلال الخلاص من جرثومة الصهيونية، التي سكنت في اجسامنا، وتسعى لتشييع جنازاتنا بالسيطرة علينا، وتدمير شخصيتنا و الغاء وجودنا.
الامة في وحدتها قوة وعزة وكرامة، وفي تجزأتها ضعف وذل وهوان، فطريق الوحدة هي طريق الكرامة، وهي طريق العزة والتحرير، وما لم يسكن العرب في خندق الوحدة، لن يكون باستطاعتهم استعادة شبر واحد من اراضيهم المغتصبة، وما لم يؤمنوا بعقيدة المقاومة، فلن يكون في مقدورهم استعادة شبر واحد من خلال طاولة المفاوضات، فالعدو الصهيوني يختلف عن كل انواع الاستعمار، فهو استعمار استيطاني توسعي، يريد الارض فارغة بدون مواطنيها، ليحل مكانها غرباء لا سمة لهم الا الايمان بالعقيدة الصهيونية، فالصهاينة في صلواتهم يرددون "شلّت يميني ان نسيتك يا اورشليم "، وعلينا ان نردد نحن شلّت يميني ان نسيتك يا فلسطين، فنحن الاجدر والاحق بان نرفع شعارت الحق بدلا من شعارات الباطل.
في تراثنا وعقيدتنا نعلي من شأن المقاومة، وفي ديننا نعلي من شأن الجهاد، ونكاد نعده الفريضة السادسة في ديننا، فلماذا نترك بابا من ابواب الجنة فتحه الله لنا في فلسطين، وعموم الارض العربية المغتصبة؟، فلتكن بوابة الجنة تحرير فلسطين، ولتكن بوابة الوحدة التي نلج منها نحو التحرير، فلا مناص امامنا الا ان نكون كذلك، والا ضاعت قيمنا وضاع تراثنا ودمرت شخصيتنا، فماذا يبقى لنا؟، بعد ضياع الاوطان والقيم والكرامة والحقوق؟.
ورغم كل ذلك، فان فلسطين لن تكون الا عربية من البحر الى النهر، ولن يكون لها وجه آخر، فقد مرّت عليها موجات الغزو التي حاولت ان تبدّل وجهها، وتغيّر معالمها، وتضّيع لغتها، ولكنها فشلت، لانها مغروسة في سويداء القلب العربية، ومنقوشة على صدر كل عربي، ووشم يتغنى به كل حر شريف من احرار الانسانية.