اسماعيل أبو البندورة
1 – ما نطلق عليه التيار القومي هو تيار فكري – سياسي – ثقافي انبثق في الوطن العربي وجاء كاستجابة استنهاضية على تحديات واجهت الأمة العربية في لحظات بحثها عن ذاتها ونهضتها وحريتها، وعلى طريق تأسيس أجوبة تاريخية – سياسية – استنهاضية على الهجمة الاستعمارية التي داهمت الوطن العربي في أكثر من لحظة تاريخية وزمانية، ولم تكن بواعث إنطلاقه مزاحمة لتيارات سائدة أو ضدا عليها أو تهميشا لدورها أو استئثارا بقيادة مرحلة، وكان بهذه المثابة جدولا في نهر كبير عنوانه الدفاع عن حرية العرب ونهضتهم ودفاعا عن وجودهم التاريخي.
وكانت منطلقات وتعريفات الفكر والتيار القومي للمباديء والقضايا القومية الكبرى واضحة لا يعتورها أي التباس وانطوت في الوقت نفسه على قابلية التجديد والتخصيب والتراكم إذ أنها لم تكن دوغما (فكرا جامدا) وصالحا لكل زمان ومكان بل كانت أفكارا مرنة يمكن رفدها وإثرائها في كل مرحلة بمعطيات ومداليل جديدة وبما تستمده من قراءاتها ومراجعاتها المتواصلة لذاتها وتواصلها وانفتاحها على الفكر العالمي.
ودأب الفكر القومي على تكوين كينونة فكرية استقلالية تريد أن تبتدع لذاتها مفرداتها وصيغها ومضامينها ليس بعيدا عن الفكر العالمي أو معاداة له ولكن بكل ما يحقق قراءة مخصبة للواقع العربي وما يجعله ملبيا لمتطلبات هذا الواقع وهمومه الخاصة، ولذا وجهت لهذا الفكر سهام النقد اعتباطا بالسعي الى العنصرية والشوفينية والانحباس داخل دائرته المغلقة، مع أن كل الايضاحات الفكرية التي قدمها هذا التيار كانت نفيا لمثل هذه الافتراءات وردا عليها وتفنيدا لها.
لم يكن الفكر القومي فكر مرحلة حتى ينتهي ويموت ويتلاشى إلا أنه تعرض مثل غيره من التيارات النهضوية السائدة إلى التراجع حينا والانسداد حينا آخر أوبسبب الاشتباك والتعالق مع مسائل الحكم في بعض الأقطار قبل نضج الظروف الموضوعية لذلك كان ما كان في الدمج مابين متطلبات التيار ومتطلبات وضرورات الحكم التي سرقت من التيار وهجه وصدقه وجعلته في صدام أحيانا مع المباديء التي بشر بها الأمر الذي شكل قطيعة في مسارات هذا التيار وأصبح من أبرز ضروراته الإنكباب على مراجعات عميقة لكل ما اعتور مسلماته من إعضالات وإعاقات وانسدادات.
لم تقرأ التيارات السائدة (الاسلامية واليسارية) جيدا أطروحات هذا الفكر حول الدين واقترانه بالقومية العربية أو أطروحاته حول المسألة الاجتماعية ونمط الاشتراكية والعدالة الاجتماعية التي يطالب بها هذا التيار فكان الافتراق والخصومة المؤسسة على خطأ في القراءة وفساد في التأويل، فكان اتهام الاحزاب الاسلامية لهذا الفكر بالدعوة الى العصبية القومية "المنتنة! " على حد تعبيرهم المزمن مع أن النهي والنبذ جاء في الحديث الشريف في سياق مختلف، واتهام الأحزاب الشيوعية واليسارية لهذا الفكر بالشوفينية القومية والمثالية.
ومع أنه قد تم على طاولات حوار ومؤتمرات مشتركة عقدت في العقود الثلاثة الأخيرة إعادة النظر بهذه الاشكاليات التي نراها زائفة بكل الأحوال إلا أنها بقيت مترسبة في الوعي واللآوعي ولا تزال تستعاد في أحيان كثيرة وكلما حاول التيار القومي استحداث مقاربات جديدة لمثل هذه المسائل، ونحن هنا لا نتحدث عن تبرئة واتهام وإنما نطرح اشكالية لابد من تحليل معطياتها وإدراجها على جدول أعمال المراجعات المطلوبة.
يواجه الفكر والتيار القومي في المرحلة الراهنة بروز حالة سياسية "اسلاموية" تكفيرية مناهضة لجوهر الاسلام وتدعي امتلاك الحقيقة المطلقة وتطلق تعبيرات وتأويلات فاسدة ومغالية ومشوهة عن الاسلام والأديان والمذاهب وعن العرب والقومية العربية، كما أنها تتبنى أفكارا سلفية ماضوية فارغة ومفلسة بالمعنى الفكري والسياسي وتنطوي على فكر وممارسة طائفية اقصائية تعيد إنتاج وبناء وصياغة العصبيات التحتية في الوطن العربي وتطلق العنان لتوحش ووحشية اجتماعية عمياء لا ترى إلا ذاتها فرقة ناجية إزاء مجتمع جاهلية وآخرا منبوذا يجب اقتلاعه والقضاء عليه.
وإزاء مثل هكذا ظاهرة أصبحت تنطلق مثل النار في الهشيم وتهدد الرابطة القومية وتستبدلها بعصبيات قاتلة، أصبح من اللازم على التيار والفكر القومي – وبحكم مسؤوليته التاريخية – وإضافة الى مناهضة هذه الدعوات البغيضة القيام بإعادة بناء الوعي بالظاهرة الدينية في المجتمع العربي وتوضيح معانيها (إزاء أزمة المعنى التي يعبر عنها الفكر الطائفي) بالدعوة الى عدم تسييس الدين بهذه الصور والأشكال المضادة لجوهره، وعدم تديين السياسة بتحديد المعنى المختلف لكليهما وأضرار انشباكهما واختلاطهما في سياقات واحدة. وطرح مفاهيم للمواطنة تقوم على الرابطة الوطنية والقومية الجمعية ونبذ العصبية والتعصب وإشاعة التسامح والتعايش بين المذاهب والأديان.