معظم الأفكار المهمة في تاريخ الحضارة قد تبدو في منطلقها أوهاماً أو أحلاماً طوبائية. لكنها قد تولد متغيرات حاسمة في الفكر والتطبيق. مختلف اختراعات الصناعة كانت أشبه بتصورات طفولية أو هوائية. ألم يحلم الإنسان بالجناحين لكي يطير بهما. ألم تشرئب عيون الناس وقلوبهم إلى السماء وكواكبها، وإلى القمر خاصة. من كان يؤكد أن الإنسان سيطير فعلاً وأنه قد يبلغ القمر..
وأنه قد ينتهي من عصر الشموع، ليولد طاقات الضياء الكهربائي الهائلة. ومن قال أن العلم سيحقق نبوءة الفلسفة اليونانية بإثبات تشكل المادة من الذرات الإلكترونية. هذا على مستوى التقدم المادي الذي لا يمكن دحض مبدأ العلاقة الوثيقة بين المخيال الإنساني وما تبتكره عقول المخترعين الكبار، وأيدي الصناعيين المهرة. لكن الصعوبة تتبدّى في المقابل على مستوى الأفكار والمُثُل والعقائد إذ تتبقى ثمة مسافات شاسعة بين تصورها وحتى المناداة بها، وبين تحققها في أنسجة الواقع غير المادي لإنسانية المجتمعات المتقدمة منها والنامية على السواء.
من السهولة بمكان أن ينتهي الجدل حول تحقق الحرية والعدالة والمساواة بين الكتل العنصرية، داخلها أو خارجها. لكن كل حضارة لها تجاربها الواضحة في هذا الميدان، مع أنه لا يمكن القول مثلاً أن حقوق الإنسان قد عمَّت مدنية العالم ككل، لكنها فرضت معاييرها في التقييم وفي مقاييس الكسب الاجتماعي لثروات المعاني الحقوقية أو تأثيراتها المباشرة في تصحيح علاقات البشر ببعضهم، بل يذهب التأكيد الموضوعي إلى حد اعتبار تفوق الغرب بالنسبة لذاته عائداً إلى مكتسبات مؤسساته لثقافة القانون التشريعي اجتماعياً، وللقانون الأخلاقي ذاتياً ووجدانياً. هذا بالطبع، بصرف النظر عن سلوك بعض دوله إزاء بقية المعمورة خارج جغرافيته البشرية والسياسية الخاصة به.
فيما يتعلق بأفكار النهضة العربية المنتجة لتحولاتها إيجاباً أو سلباً، فإنه من التعسف والغلوّ في النكران تعميمُ صفة الأوهام على معظمها، ومنها، وفي مركزها، تبرز الوحدة باعتبارها عقيدة جمعانية، ترقى إلى سوية البداهة العامة غير المحتاجة إلى كل ذلك النتاج من سجالات الإثبات والبرهنة معها أو ضدها، فلم يحدث أن تخلى عنها الوجدان القومي لكافة شعوب الأمة، وإن تناست أضواءها ومفاهيمها طبقةُ الساسة المحترفين، ومعهم موجات من مثقفي الصحافة والحزبيات الناشئة. ليست الفكرة الجمعانية المتأصلة في لا وعي الأجيال المتتابعة، من طبيعة الوهم أو الحلم، ما دامت تلاقي عقبات الأمر الواقع السياسي. لا يمكن لها أن تمحي مع انقضاء تجارب فاشلة قامت باسمها، ثم انهارت دون القدرة على ترجمة معاييرها.
ما يحصل اليوم بسبب الركود السياسي والفكري المسيطر إجمالاً على سطوح الحياة العامة لمجتمعات العرب، أن هنالك حركة نكوص ولا مبالاة بالنسبة للأفكار الكبيرة. أصبح مألوفاً في بعض الوسط الثقافي الاستخفاف حتى باسم العروبة والتندر بأوصاف سلبية تُلصق بها، وفي هذا السياق من استقالة الحس النقدي الموضوعي واختفاء أقلامه وألسنته من وسائل الاعلام، صار أمراً عادياً تقريباً التخفّف من أعباء أية التزامات بثقافة الحقيقة في أي ميدان من الاهتمامات بالمصالح العامة هكذا يبرز دور الإنكاريين المنظمين، المستفيدين الأوائل من استثمار أجواء التراخي وعدم التصديق للاجهاز على ما تبقى من مؤونة الاعتقادات المتفائلة، والإمعان في تعميم اليأس من مفاجآت التاريخ.
الإنكاريون المنظمون، والنظاميون، يحتلون منابر التلقين والتوجيه، في الوقت الذي يجري فيه استلاب وعي الأجيال الشابة الصاعدة، واصطناع إغراءات المزالق نحو مختلف الانحرافات، المشرعة الأبواب، أمام أبناء الطبقات الوسطى. فالتسييس القديم الجاذب لشباب الأجيال السابقة، أضحى موضةً مستهلكة. والإنكاريون يشتغلون بخبث معولم في تجذير نزوات المراهقة، وجعلها دوافع مستديمة مستقرة في قاعدة السلوك الشبابي. فالمطلوب إنتاج طبقة وسطى جديدة منقلبة كلياً على أدوار مثيلاتها السابقة، وخاصة منها ذلك الدور التحشيدي القيادي للجماهير الأوسع وراء أفكار التحرر الجماعي وتنظيماته الناشطة. هل نقول أن المجتمعات العربية المتآلفة مع عادات الانضواءات العقائدية، تكاد اليوم تخسر هذا النوع من الحيوية مع اضحلال الطبقات الوسطى الحاضنة لها بحكم قابليتها للتقدم النسبي في الشأنين المادي والمهني، والثقافي المدني. لكن الاستقطاب العمودي المتمادي لجماع السلطة في القمة من جهة، وتهميش الغالبيات العظمى من الجماهير، كان له مفعول تفتيتي لكيان الوسط البشري؛ فانجذبت أقليات منه ملتحقة بالمصالح المبذولة في عتبات السلطان لأعوانه، وغاصت أكثريته في لجج الجمهرات، والمعاناة معها لشروطها المعيشية المتهالكة، واستغراقها في دوامة السلفويات المزايدة على بعضها. فقد ذهبت الطبقة الوسطى العربية ضحية هذا الاستقطاب الحاد بين العنفين السلطوي في القمة، والسلفوي البروليتاري في القاعدة. فلم يتبق للسياسة المدنية إلا أصوات معارضة لفظوية متناثرة، فاقدة التجاوب مع الجماهير العريضة.
الأفكار الكبيرة، القائدة لتحولات الأمم الحية، لا تفقد مصداقيتها في ذاتها حتى في أحوال الكبوات والتعثرات، بل تبعث فيها حياة جديدة، كاشفة عن جدلية أعمق بين مفاهيمها وعقبات الواقع. فلنأخذ مثال الاتحاد الأوروبي الذي يواجه أكبر أزمة مصيرية منذ قيامه، مع ارتداد الأزمة الاقتصادية بأوضح مصائبها على أوروبا، زاحفة عليها من ما وراء الأطلسي، من عاصمة الكارثة أمريكا. فالانفصاليون في عواصم الاتحاد الرئيسية يشهرون سيوفهم مجدداً بعد أن أسفرت الأزمة عن أخطر مفاعليها، مع تهديدها بانهيار دول كاملة عديدة، ليس في المحيط الطرفي للاتحاد وحده، بل في العمق منه، حيثما تقوم دياناصورات المال والاقتصاد الكبير القاري عينه. فألمانيا، وهي المالكة لمفاتيح الاحتياطي الاقتصادي للاتحاد كله، والمبادرة بعد تردد طويل وشاق، لإنقاذ مالية اليونان في لحظات ما قبل الإفلاس الأخيرة، ألمانيا هذه، هي كذلك دولة ذات مديونية كسائر دول أوروبا. وإذا ما اضطرت إلى نجدة اليونان، فإنها تحمل مديونيتها الخاصة أرقاماً جديدة.
ما يتعدى هذا الوضع المالي المتدهور بالنسبة لكبار الاتحاد الأوروبي كما لصغاره، هو التشبث العارم بالاتحاد نفسه، بثقافته الحاملة لبوصلة مصيره. فقد كان من المنتظر أن تتمزق أواصر الاتحاد تحت عصف الأزمة، أن تتداعى أركانه، فينغلق كبيرها على ما تبقى له من احتياطه، وأن يتفرّق الشكل السياسي، الهزيل أصلاً، الكاسي لجسم الاتحاد. لكن امتحان التضامن أو الانحلال مازال في أوج احتدامه. فالحل اليوناني ليس نهائياً لبلده، أو لأوروبا كلها. لذلك تقع على ثقافة الاتحاد عينها مهمة استعادته للغاية الكونية التي استوحاها رواده الفلاسفة الأوائل من أجل إنشائه. وهي أن يصبح الاتحاد قاطرة لمدنية إنسانية حقانية، تقطع مع حضارة العنف المستبدة بتاريخ الغرب، منذ أن وقع تحريف ثورة التنوير تمهيداً لولادة الرأسمالية. ذلك أن المبادرة لتقويم مالية اليونان ينبغي ألا تفسر من وجهة التضامن الاقتصادي وحده الذي يدعو أعضاء الاتحاد الأغنياء إلى تلبية أعضائه الفقراء في أوقات الشدة، إذ يرفض التقدميون الوحدويون فكرةَ تحويل الاتحاد إلى شركة منافع متبادلة. وهم يرون أن الأزمة تعيد طرح التحدي البنيوي لشكلانية الاتحاد ورسالته الحقيقية إلى أعضائه، وإلى المجتمع الدولي. فأوروبا مدعوة، ومن قبل هؤلاء الطلائع، إلى إعادة النظر في هيكلة الاتحاد، انطلاقاً من حقيقة أن الليبرالية الجديدة المستوردة من أمريكا، استطاعت أن تعزو الاتحاد إبان سنوات جنون الاقتصاد الفقاعي الوهمي في العقدين الأخيرين؛ فقد أخذت الاتحاد على حين غرة قبل أن يتاح لريادته الثقافية تطويرُ نظام الرعاية الاجتماعية الذي كان ينعم به معظم أعضائه الغربيين، منذ ما قبل نشأة الإتحاد. وكان لزاماً على هذا النظام أن يختار ليبراليته الخاصة إن صح التعبير دون أن تتهاوى حماياته القديمة المدافعة عن تلك الخصوصية، في مواجهة شطحات الرأسمالية الأمريكية، كما سوف يحدث لها أخيراً، إذ وصلت تماماً إلى وضع العجز شبه الكامل عن معالجة أعطالها المزمنة.
الأوروبيون اليوم لا يتشككون في (معجزة) اتحادهم. والواعون منهم يفيدون من ضغوط الأزمة المالية كيما يعيدون طروحاتهم الإصلاحية التي تتناول التعامل مع الاتحاد كمؤسسة حضارية، وليس كشركة مقاولات معولمة، يأكل كبيرها صغيرها في المحصلة. فالدرس الذي على الليبراليين العرب أن يتعلموه هو أن فكر العصر هو فكر للتوحيد وليس للتفرقة. وأن الحال العربية المتهالكة راهنياً ليست سوى خارطة البعثرة الموقظة والمغذية لمختلف عاهات الشرذمة بالعنصريات والطائفيات والمذهبيات، هي الشاهدة الفظيعة على ما يعنيه غياب الوحدة المستدام، أو تغييبها المقصود عربياً وأجنبياً وصهيونياً، من أية نشاطات للشأن العام، الحاكم والمحكوم.
نحن الذين نجعل من وحدتنا حلماً أو وهماً، بقدر ما تتعاظم ضرورتها الوجودية ما فوق كل كارثة سياسية أو بنيوية تصيب الجزء العربي هنا أو هناك كي تصيبه ككل. إننا نقلب الحقيقة وهماً، فالمرحلة الراهنة الموصوفة بمرحلة الإنكاريين، ليست عرضاً وهمياً، بل ينبغي الاعتراف بها. ذلك أنها، في أبسط شروط براءتها، إن كانت لها تلك الخاصية أصلاً، لن تؤشر على صنف الحقيقة التي ينكرونها، إنما هو عجز العقل الليبرالي عن إدراك الواقع. لأنه موغل في إساءة فهمه من أجل أن يتابع الإنكارُ تكذيبَ الواقع كي لا يضطر في النهاية إلى تكذيب نفسه. وهو الأمر المحتوم وقوعه عقب مسلسل أزماته المستعصية المتلاحقة.
الإنكاريون في كل مكان، وليس في الساحات العربية وحدها، إنهم حراس الخطأ الدائم، الأمينون كل الأمانة على صيانة لعبة الكذب باصطناع أحدث جاهزيات التوهيم الجماعي، كيما ينتهي الأمر، كما يتصور الإنكاريون، إلى تخلي الجماعة، طوعياً، عن اسمها ولسانها، عن وطنها الروحي، والأنفلات من تاريخها، حتى لا يتبقى لها ثمة مستقبل من جنس ماضيها عينه.
الإنكاريون يفعلون كل شيء من أجل ألا تكذبهم أكاذيبهم، ولكن هذا ما تفعله بهم كل ساعة.