بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
من يحب الشجرة يحب أغصانها
مثل
ثمة من يحاول الانتقاص من قيمة التجربة الناصرية من خلال الاشارة الى اخفاق هنا او هناك، وهذه المحاولة لا تستهدف البحث عن الحقيقة بل الإساءة للتجربة ومحاولة تشويهها، ولكن الان وبعد حوالي اربعة عقود على رحيل القائد الرمز جمال عبدالناصر رحمه الله نستطيع بعقل هادئ ومنطق موضوعي اعطاء حكم حول تجربته لا يقع في فخ الانحياز نتيجة الصراعات العربية – العربية، ولا يتأثر بالحملات الدعائية المعادية للقومية العربية. وما اريد التركيز عليه ولفت النظر اليه هو دور العامل الخارجي في وضع العراقيل امام التجربة الناصرية من اجل افشالها، تاركا الان العوامل الداخلية التي اثرت في التجربة. يقينا ان العامل الخارجي كان عاملا خطيرا جدا ساعد على بروز ثغرات لم تكن مقصودة اصلا ادت الى اغتيال هذه التجربة القومية الرائدة، اذ ان تحالف الغرب والصهيونية ونظم عربية كان وراء أثارة صراعات عنيفة بالغة التكاليف اجبرت التجربة القومية الناصرية على دخول معارك كثيرة في ان واحد دفاعا عن الامة ووحدتها ومصالحها القومية والقطرية، وتلك كانت اول مظاهر الفخاخ التي وضعت لاغتيال التجربة الفتية والجديدة.
ان التجارب التاريخية تثبت ان العدو المشترك (الغرب الاستعماري والصهيونية والنخبة القومية الفارسية الحاكمة في ايران) كان دائما يعتمد على تكتيك خطير وهو فتح عدة جبهات صراع لاي تجربة عربية تقدمية وحدوية، من اجل ليس استنزافها فقط بل، الاهم، عزلها عن محيطها وبيئتها وتحويلها من حركة جماهيرية واسعة الى حزب ان جماعة تدافع عن نفسها ووجودها التنظيمي او السياسي. لقد واجه المرحوم عبدالناصر التأمر الداخلي من تيارات دينية معروفة ومن الرجعية التي تضررت من النهج التقدمي في الزراعة والصناعة، ومن تيارات يسارية، والاخطر من حلقات كانت جزء من ثورة يوليو الوطنية والقومية.
وهذا الاصطفاف الداخلي الواسع ضد الناصرية كان يستنزف الكثير من طاقاتها الكفاحية ويجبرها على تخصيص جزء من الجهد لمواجهة الضغط الداخلي، الامر الذي ادخل الناصرية في صراع لم تكن تريده بالاصل، وهذا هو بالضبط ما كانت تريده القوى المعادية لامتنا العربية.
اما في الخارج فان التحدي كان اخطر لان التحالف الذي تشكل ضد عبدالناصر كان واسع النطاق ويملك امكانيات ضخمة جدا، فالكيان الصهيوني، مدعوما من قبل امريكا وبريطانيا وفرنسا، تخصص في شن حروب او اثارة ازمات استنزاف مع مصر عبدالناصر من اجل اجباره على تحويل مركز الاهتمام وتخصيص الموارد من التنمية، وهي معيار الناس لدعم اي نظام، الى مجال استهلاكي تبذيري هو الحرب او الاستعداد للحرب دفاعا عن النفس، اما امريكا وبريطانيا وفرنسا فقد لعبت كل منها دورا خطيرا في مراحل معينة في اضعاف التجربة الناصرية، فهذه الاطراف كانت تتولى وظيفة عزل مصر في العالم وتعبئة الرأي العام ضدها عالميا. وعلى المستوى العربي كانت امريكا وبريطانيا وفرنسا تقيم علاقات متينة مع انظمة عربية في المشرق والمغرب من اجل عزل مصر واشغالها في صراعات جانبية، واستغلال موارد البترودولار من اجل ادامة الصراع ضد مصر.
ان حروب عام 1956 وعام 1967 وحرب اليمن والحصار الاقتصادي والعسكري وتمويل عناصر الفساد داخل النظام الوطني في مصر، كانت الممهدات الطبيعية لاغتيال التجربة، فهذه الحروب والازمات كانت مكلفة مادية ومعنويا وبشريا ووضعت الجماهير في مصر امام شعور واضح بالتعب من شدة الاستنزاف ومن عدم اكمال برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتي تعد الشرط المسبق للمحافظة على الاندفاع الجماهيري القوي في دعم النظام الوطني في مصر. وفي اطار هذه العملية المخططة والمدروسة لسحق التجربة الناصرية كان سرطانها هو وجود تكتلات معادية لنهج عبدالناصر التحرري داخل النظام خصوصا في الاوساط العسكرية، والتي تولت مهمة تعجيز القوات المسلحة وتخريب قدراتها القتالية وابعادها عن الرئيس عبدالناصر وجعلها تابعة في ولاءها لغيره.
بالاضافة لتعمد محاصرة عبدالناصر بالصراعات مع الرجعية وقوى الاستعمار والصهيونية فان الصراع الاخطر كان ذلك الذي نشأ بين القوى الوحدوية العربية، ففي البداية نشب صراع بين جناحي التيار القومي وهما البعث والناصرية، وكان ذلك الصراع مدمرا، ثم بدأت الصراعات الداخلية تتواتر وتنتشر داخل البعث وداخل النظام الناصري مع استمرار الصراع بينهما، فرأينا الاخ يقاتل شقيقه مع ان الاعداء الكثيرين والاقوياء كانوا يزدادون قوة!
في ضوء الملاحظات التاريخية المشاراليها فان السؤال الذي يفرض نفسه هو : هل واجهت تجربة تقدمية ووطنية كالتجربة الناصرية تحديات خارجية وداخلية كتلك التي واجهها المرحوم جمال عبدالناصر؟ الجواب هو كلا فحتى وفاة المرحوم عبدالناصر لم تواجه اي نظام مؤامرات خطيرة ومتواترة كالتي واجهتها مصر في ظل عبدالناصر، ولذلك كان مستحيلا الجمع بين تحقيق الاهداف الكبرى كما خطط لها وبين مقاومة التحديات المتعددة المصادر.
نعم ان التجربة الناصرية كانت ضحية عوامل التأمر الخارجي والداخلي والذي لولاه لكان مسار الناصرية مختلفا تماما علما ان التحديات الخارجية، بعددها الكبير ونوعيتها المتميزة بالاصرار على خنق التجربة، تؤكد سلامة النهج الناصري العام، فبقدر ما يتحالف اعداء ضد تجربة ما تكون هذه التجربة قريبة او بعيدة عن المبادئ والاهداف القومية.
واخيرا لابد من الاشارة الى حقيقة بارزة وهي ان التجربة الناصرية ولدت في بيئة غياب اي تجربة حكم وطني وقومي قبلها، لذلك فانها تصدت لتحالف الاعداء استنادا الى خبرات محدودة وتجارب غير عميقة فكان طبيعيا ان تخوض حروبا وصراعات دون اقتران ذلك بالقدرة على الاعداد الافضل للمواجهات والرد عليها بمنطق من يملك خبرات وتجارب كثيرة.
الان وبعد حوالي اربع عقود على غياب عبدالناصر وهي فترة كافية لاستخلاص الدروس والعبر وتعميق الوعي الستراتيجي والتكتيكي لدى كل القوميين العرب وبغض النظر عن تنظيماتهم، لابد من التساؤل : هل حقا استفدنا من دروس التجربة الناصرية واهمها درس ان العدو يحاربنا بالتخطيط الستراتيجي وتحشيد القوى حتى المتناقضة ضدنا بينما نحن نواجهه ونحن ممزقون ومشرذمون دون مبرر رغم كل التجارب العميقة التي مررنا بها في العقود الاربعة الماضية؟
الجواب هو كلا فمع الاسف لم ننجح بعد في اعادة بناء وحدة التيار القومي العربي الناهض بقوة وتحد في العراق. نحن مطالبون، الان وليس غدا، ان نوحد صفوف كافة القوميين العرب خصوصا التيارين البعثي والناصري وذلك لتشابه برنامجيهما الى حد التطابق تقريبا. فهل نكون بمستوى تحديات المرحلة التاريخية الخطيرة ونعيد بناء وحدة التيار القومي العربي لنقدمه هدية لامتنا العربية التي تريد الوحدة لانها تدرك اننا بدونها لن ننتصر؟
14/7/2009