ما ان بدأ الغزاة والعملاء في العراق الترويج لما يُسمى انتخابات مجالس المحافظات في العراق، وما ان أعلنوا النتائج الأولية لها، حتى رأينا كيف أخذت الماكنة الإعلامية والدعائية للمحتل الأمريكي وعملائه تدور وتنفخ في هذه العملية وتطلق عليها الكثير من النعوت والأوصاف التي تعلي من شأن تلك الانتخابات، حتى ان المرء يتصور أنه أمام حالة "ديمقراطية" نموذجية وفريدة من نوعها، ويلحظ أن هناك إصراراً على تضليل وايهام الرأي العام بأن تحولاً جوهرياً قد حدث في الساحة العراقية، وأن المرحلة القادمة سوف تشهد تغييراً حقيقياً في "خريطة القوى السياسية" وفق ادعاءات ومزاعم المحتلين وعملائهم الذين يتحكمون في سير هذه العملية بكل تفاصيلها ونتائجها.
ومن بعض المزاعم التي راجت حول هذه الانتخابات "الديمقراطية جدا" و"النزيهة جداً" أن النتائج التي أسفرت عنها سوف تؤدي إلى تراجع وتقويض مشروعات وأهداف القوى السياسية الطائفية، وأن أصحاب المشاريع الدينية والمذهبية والانفصالية من دعاة الفيدرالية والتقسيم قد تراجعوا إلى الصفوف الخلفية بعد أن فقدوا جزءا من حصتهم لصالح "القوى الوطنية جدا" و"الوحدوية جداً" من أصحاب ما يسمى قائمة "دولة القانون" ورافعي شعار تقوية "الدولة المركزية"، وهي القائمة التي يتصدرها "المالكي" "الوطني جدا" و"الغيور جدا" على وحدة العراق و"الحريص جدا" على مصالح العراق والعراقيين بعد أن حاول في مناورة مكشوفة تبديل خطابه السياسي الطائفي والظهور بمظهر "الوطني الوحدوي التصالحي"، الرافض خطابات وسلوكات الانفصاليين والطائفيين، ليكون بذلك "رجل الساعة" و"القائد المنتظر" من أجل توحيد العراق وانقاذه من الكوارث التي نزلت به، والتي لم يكن هو طرفاً فيها أو مسئولاً عنها، ومن أجل الاستمرار في هذه المسرحية الفاشلة، وبغرض احباك الدور بصورة جيدة، كان لابد من اطلاق بعض "الأكاذيب" و"المبادرات" الوهمية مثل الدعوة للمصالحة مع قادة وضباط الجيش العراقي السابق، والزعم بوجود حوار مع بضع فصائل المقاومة العراقية.
وهكذا جرى اغراق الساحة الإعلامية داخلياً وخارجياً بالعديد من "الترهات" و"الفبركات" الإعلامية، وتم إعداد وتسريب الكثير من التقارير والتحليلات التي تتحدث عن هذا الحدث "التاريخي" والمهم، الذي ستكون له انعكاساته الإيجابية على مستقبل العراق والمنطقة، وأن العراقيين باتوا على بُعد خطوات من "الجنة الموعودة" التي بشرهم بها المحتل وزمر العمالة التابعة له بعد أن أقدموا على جريمة غزو العراق واسقاط نظامه الوطني وتدمير كيان العراق كدولة. وأقاموا مكانه عراقاً آخر وفق مقاساتهم ومصالحهم، أطلقوا عليه اسم "العراق الجديد"، وهم يقصدون بهذا الوصف ألا يكون العراق عراقاً عربياً موحداً، وليكن بعد ذلك ما يكون.. عراقاً "أمريكيا" أو "فارسيا" أو "صهيونيا" طالما يُحقق أهدافهم الإجرامية، وكل ذلك يتم باسم الديمقراطية التي جلبوها للعراق الجديد الذي يبشرون به ويسرفون في تمجيده وإظهار محاسنه في وسائل إعلامهم المختلفة، يشاركهم في هذا "الضجيج" أو "التهريج الإعلامي" شرذمة من الكتاب والصحفيين من الذين أوغلت أقلامهم مع المحتل الأمريكي والعملاء في دماء العراقيين، ولايزالون حتى هذه اللحظة قابعين في مواقعهم المساندة والمؤيدة للمحتل الأمريكي ولكل جرائمه في العراق، غير مكترثين بكل الحقائق التي تكشفت ولاتزال تتوالى في فضح جريمة الغزو والعدوان، الأمر الذي يجعل من هذه الشريحة المنبوذة من الكتاب شركاء حقيقيين في هذه الجريمة التي تمت في حق العراق والأمة العربية.
ولأن المحتل الأمريكي قد خطط لبناء "عراق جديد" يؤمن مصالحه ويحقق أهدافه كان لابد له من وضع أسس وقواعد لهذا البناء، لذلك أقدم على العديد من الخطوات التي توفر له هذه الأسس، فقام أولاً باطلاق كل مخزون التخلف الديني والمذهبي والعرقي، ثم راح يعبث ويشوه المكنون التاريخي والجغرافي للعراق عبر تكريس المحاصصة الطائفية والعرقية التي تعني في نهاية الأمر تقسيم العراق وانهاء دوره القومي والإقليمي لصالح قوى إقليمية معادية لطموحات العرب الوحدوية مثل إيران والعدو الصهيوني. وكان عليه (المحتل) أن يعمل بكل الطرائق على وضع يده على النفط العراقي وسرقة كل ثرواته وأمواله، وكذلك وضع دستور جديد يتضمن كل هذه الأسس التخريبية التي تعمل على اضعاف العراق وافقاره، ورفد كل هذا بمجموعة من القرارات التي تستهدف مؤسسات الدولة العراقية، خاصة مؤسسات الجيش والأمن، وإصدار القوانين الجائرة التي تؤمن تحقيق أهدافه مثل قوانين الاجتثاث وغيرها.
وبالعودة إلى حديث البداية حول الانتخابات والنتائج التي أدت إلى تدعيم مركز رئيس الحكومة العميلة (المالكي) في مواجهة الأطراف الأخرى المنافسة له، وقد قلنا كيف يجري الحديث عن هذه العملية كأنها "حدث وطني مهم" ومحاولة تصويرها كأنها حالة وطنية جديدة تتشكل في العراق، في الوقت الذي يعرف كل العالم أن هذه الانتخابات التي يجرى "التطبيل" و"التهليل" لها كثيراً ما هي إلا نسخة "طبق الأصل" من العمليات الانتخابية الصورية التي جرت في أوقات سابقة تحت حراب المحتل الأمريكي وتأثيره المطلق فيها، فهذه وتلك قد قامت على أساس ديني طائفي وعشائري، وأن الأحزاب والجماعات الطائفية كانت وراء كل المرشحين والقوائم المعلنة، كما أن سيف الإرهاب السياسي والديني كان مصلتا على رقاب الناس في كل المحافظات، ناهيك عن نسب المشاركة الضعيفة جداً وما رافقها من عمليات تزوير فاضحة وما شهدته من حوادث قتل وعنف، وهي وقائع تكذب وتبطل كل الهالة الإعلامية التي جرى الترويج لها حول هذه الانتخابات، وهي وقائع تؤكد أن ما حصل لا يعدو إعادة صياغة المشهد السياسي الطائفي "بواجهات" و"شعارات" وطنية مزعومة، وأن المالكي قد سخر كل إمكانيات ووسائل الحكومة التي بين يديه للتلاعب بهذه الانتخابات وتسيير دفتها لصالح حزبه وجماعته بعد أن حاز رضا وقبول الأمريكان والإيرانيين على حد سواء باعتبارهما اللاعبين الأساسيين في الساحة العراقية، فكل هؤلاء العملاء – من كان منهم في الواجهة أو في الصفوف الخلفية -يدركون جيداً أنه لا سبيل أمامهم للبقاء والاستمرار في الحكم من دون هذه "اللعبة القذرة"، لعبة الاستقطاب الطائفي والعرقي، وإغراق العراق وشعبه في بئر الطائفية السوداء الذي لا قرار له.
ومع كل هذه الحقائق التي يعرفها القاصي والداني هُم يتحدثون – من دون خجل – عن هذه الانتخابات "التاريخية" ويتحدثون – بكل صفاقة – عن "العراق الجديد". هكذا بكل سهولة يريد المحتلون وعملاؤهم الاستخفاف بوعي العراقيين وتزييف إرادتهم الوطنية، والدوس على أوجاعهم ومعاناتهم.
يتحدثون عن "العراق الجديد" وهُم يقصدون أن "تاريخ العراق" قد بدأ مع هؤلاء الأقزام الذين لا تاريخ لهم ولا ضمير لهم، وهم بهذا الوصف يستهدفون في الواقع سرقة كل تاريخ العراق وعمقه الحضاري الممتد لآلاف السنين، ومصادرة كل ارثه الديني والثقافي والمعرفي وكل ما قدمه العراق للبشرية من منجزات وابداعات في مختلف مجالات الفكر والمعرفة: عراق سومر واكد وبابل، واشور، عراق الرشيد والمنصور وصدام حسين.
إن "العراق الجديد" الذي يروجون له ليس هو "عراق العراقيين" وليس هو "عراق العرب" وليس هو "عراق الإنسانية" بل هو "عراقهم" الذي صنعوه وفق مشيئتهم ومصالحهم بعد أن عاثوا فيه تخريباً وفساداً.
هم يريدون عراقاً تتوقف فيه كل صور الحياة، ويكون عنواناً للموت والدمار، هم لا يريديون استمرار جريان نهري دجلة والفرات، ولا يتحملون رؤية وسماع هدير شط العرب، لأن هدفهم موت حضارة وادي الرافدين، وقطع جذورها ومنع اشعاعاتها. في "العراق الجديد" هم عمدوا إلى تدمير كل المتاحف وسرقة آثاره، لكي يبقى العراق بلا تاريخ وبلا آثار، ومن أجل أن تبقى كل آثاره ومقتنياته التاريخية خارج العراق -كما هو حاصل اليوم.. فهل يمكن تصور أن تبقى مسلة حمورابي العراقية التي قدمت للبشرية كل مواد وأسس القانون في متحف اللوفر في باريس؟ وعلى ذات الهدف هم يريدون اغتيال "أسطورة" أو ملحمة جلجامش، ويريدون تدمير "أسد بابل" وتخريب الحدائق المعلقة التي بناها البابليون وملكهم نبوخذ نصر، وذلك من أجل أن تموت مدينة الحلة ومدينة بابل التاريخية.
فهل أبقوا في "عراقهم الجديد" على بغداد "العروبة" و"التاريخ" التي نعرفها؟ بغداد سرة العراق وضمير الأمة، بغداد قبلة العلم والعلماء ومجمع عقل الكون، ووجهة المفكرين والفلاسفة والأدباء.. بغداد دار الحكمة والمستنصرية، بغداد الكرخ والرصافة، لماذا أفرغوها من كل مخزونها العلمي والإنساني ودمروا وجهها الحضاري؟ لماذا أزاحوا كل ما فيها من صور الحضارة والجمال والفضيلة؟ وزرعوا مكانها صوراً للموت والدمار والرذيلة؟ وقطعوا أوصالها بالسواتر والقطع الاسمنتية المسلحة؟ هل يمكن لنا أن نتصور بغداد من دون "جسر الأئمة" الذي يربط بين "أعظمية" أبي حنيفة النعمان و"كاظمية" الإمامين الجوادين "عليهما السلام"؟ وهل يمكن أن تبقى بغداد من دون شارع المتنبي وشارع السعدون وشارع أبي نواس؟ وهل تبقى بغداد من دون ساحة التحرير والجندي المجهول و"قوس النصر"؟
وماذا يمكن أن نقول عن البصرة الفيحاء، حاضرة العلم والبلاغة، المدينة التي احتضنت الجاحظ وحسن البصري وأبوالعلاء المعري، لماذا حولوها إلى مجرد "خربة" ومدينة أطلال؟ وصار العالم لا يتحدث عنها إلا مع "آبار النفط"؟ هذه الآبار التي يتقاتل عليها اللصوص والقتلة، ولا يذكرها الناس اليوم إلا كأنها مقطوعة الجذور عن أصولها العربية، بعد أن البسها العملاء والدخلاء ثوباً غير ثوبها؟ واشاعوا لغة غير لغتها، لولا "السياب" الذي مازال واقفاً شامخاً وحيداً يغني أنشودة "الحياة والمطر" متحدياً إرادة الموت والقحط المزروعين في طول البصرة وعرضها بفعل الغزاة والعملاء.
وإن ننسى مدنا كيف لنا أن ننسى مدن الطهارة والفضيلة والقداسة. النجف وكربلاء وسامراء؟ أرض الائمة الأطهار "علي بن أبي طالب" و"الحسين" و"العباس" و"الإمامين العسكريين" (عليهم السلام)، ومعهم مدينة الكوفة مدينة العلم والحديث والنحو وبيت الإمام علي ومقر حكمه؟ هذه المدن جميعها مدن النور والعلم والعلماء، التي علمت الدنيا كلها معاني الرجولة والبطولة، وقدمت للبشرية قيم التضحية والفداء، هذه المدن التي كانت دائماً قبلة للزوار الذين يشعرون فيها بالامان والاطمئنان، لماذا أصبحت اليوم "حذرة" "خائفة ووجلة" بعد أن أصبحت هدفاً للقوى الإرهابية – التي جلبها المحتل من ضمن ما جلب من كوارث ومآس للعراق – وراحت تستهدف الناس والزوار الأبرياء وتستهدف المراقد والضرائح الشريفة لإشعال الفتن والاقتتال الطائفي؟ ولماذا صارت نهباً للميليشيات والعصابات تمارس فيها أبشع وأحط أنواع الأعمال والسلوكات التي تدفع باتجاه تكريس الاستقطاب الطائفي، بعد أن كانت واحات لاستقبال العلماء وطلاب العلم؟
وإذا ما انتقلنا من الجنوب إلى الشمال هناك حيث توجد مدينة الموصل "الحدباء" وأم الربيعين، مدينة الأصالة والوحدة والتعايش الأخوي، هذه المدينة الباسلة الصامدة لاتزال عصية على نيات ومخططات القوى الانفصالية التي تعمل جاهدة لتخريب وحدتها وتدمير نسيجها الاجتماعي، وقطم بعض نواحيها وأقضيتها في إطار ما فعلوه من تمزيق وتفتيت لإعادة صياغة "العراق الجديد" الذي يتحدثون عنه، عراق من دون هذه المدن الشامخة عراق لا أثر فيه لأي حضور تاريخي أو عمق حضاري.
ولكي يكتمل هذا "العراق الجديد" المزعوم كان لابد أن تمتد يد الإجرام إلى ذاكرة العراقيين وتخريب كل ما تحتفظ به هذه الذاكرة من مخزون في مجالات الثقافة والفن والغناء، لذلك هم يحاولون طمس كل التراث الفني، وتغييب كل ذكرى للرموز الفنية التي عرفها العراق، وقطع أي اتصال بها أو تواصل لها مع الأجيال الجديدة في العراق وفي محيطه القومي، هم لا يريدون أن تبقى ذكرى "القبانجي" أو "ليوسف عمر" أو "لناظم الغزالي"، هم يريدون اخفاء صوت "حضيري بوعزيز" و "داخل حسن وزهور حسين ووحيدة خليل وحسين نعمة وإلياس خضر" وغيرهم الكثير الكثير من الذين صدحت أصواتهم بمجد العراق وعكست كل ما فيه من أصالة وشموخ.
هم فعلوا كل هذه الجرائم في العراق باسم الديمقراطية الزائفة، وباسم الفيدرالية المسمومة، وطلبوا إلى العراقيين أن يمسحوا كل تاريخهم الحضاري، ويشطبوا كل تراثهم الإنساني باسم "العراق الجديد" الذي يحاولون صناعته وفق أحجامهم ومشيئتهم الإجرامية، هم باختصار كما قال فيهم الشاعر العراقي الكبير "عبدالرزاق عبدالواحد":
هم يصنعون عراقاً لا عراق به
ثالوثه الفقر والإجرام والعوق
ويصنعون عراقاً لا ضمير له
لا روح، ولا قلب، ولا خلق
هم يصنعون عراقاً حجم أنفسهم
سيماؤه الجهل، والحرمان، والفرق
أمسى الذي كان زهو الأرض أجمعها
خجلان ان سكتوا عنه، وإن نطقوا
لا أصل، لا أرض، لا تاريخ ظل له
هم مزقوا مثلما شاءوا، وهم رتقوا