اسماعيل أبو البندورة
كنا ولا نزال ندعو لوحدة الوطن العربي باعتباره خياراً وجودياً مستقبلياً لا فكاك عنه، وإذا بنا في لحظة ثانية ندعو إلى الوحدة الوطنية داخل الأقطار بعد أن اشتعلت فيها العصبيات والهويات الفرعية والانشطارات إلى أن أخذنا هذا الانهيار المديد إلى الوقوف أمام لحظة ابتداء التقسيم أو أمام لحظة التفتيت والتشظي والتذرير وتكسير الوجود العربي فنكون بذلك قد وصلنا إلى لحظة تاريخية قاسية تضعنا على فوهة بركان ملتهب وتهدد كيانيتنا وهويتنا العربية وتطرح علينا سؤال الوجود والمستقبل بكل مخاطره وإكراهاته وتداعياته وتحرك فينا في الوقت نفسه حس اليقظة والمواجهة ذلك أن التقسيم المفترض والمقترح استعمارياً وصهيونياً منذ أمد بعيد سوف يخرجنا من التاريخ حتماً ويشتت شملنا فنصبح مللاً ونحلاً وكيانات وجماعات وبشكل يحقق جماع ما يريده المشروع الاستعماري وما يتخيله ويقرره لمستقبل أمتنا العربية.
وتشكل فكرة النبذ والتفريق والتقسيم جوهر الفكر الاستعماري ماضياً وحاضراً فيما يتعلق بوطننا العربي، وكانت معظم الأخيلة الاستعمارية تتجمع حول هذا الهدف قبل قيام الكيان العنصري الصهيوني كواقع استعماري وبعده، وكان الموقف المضاد والمعادي لوحدة هذه الأمة ووحدة وطنها وترابها الوطني على رأس أولويات المشروع الاستعماري في المنطقة واجتمع على ذلك الفكر الاستعماري بكل أجهزته وأدواته الثقافية والمفهومية والاعلامية وآلته العسكرية التي حضرت إلى بلادنا لغايات الاحتلال والإذلال واقتسام أطراف الوطن العربي والوقوف ضد وحدته ونهضته.
وأحدث المشروع الاستعماري عبر تاريخه الكثير من الاختراقات والصراعات داخل وطننا العربي بغية توليد بيئات انقسامية وتفريخ صراعات تكون مجالاً وعتبة لإحداث الشروخ المطلوبة داخل النسيج الوطني والاجتماعي وتمكين القوى الاستعمارية من التحكم والتوطد من خلال إحداث حيثيات ومناخات مناسبة لاستمرار احتلال الوطن العربي وتمزيقه وإخضاعه للأهواء الاستعمارية كما قررها دهاقنته في الأزمنة المختلفة.
اعتمد الاستعمار في مشروعه التقسيمي النابذ بشكل رئيس على ما أطلقه في أدبياته "الأقليات القومية والدينية والإثنيات" وكيفية تصنيعها وتكييفها وتحريكها في ظروف مختلفة لتكون الثغرة التي سينفذ منها إلى روح الوطن والأمة في بلاد يجمع اهلها على أن من يسميهم الاستعمار بالأقليات هم جزء من النسيج والكيان العربي وأن لهم ما للعرب وعليهم ما عليهم في كل الأزمان وأن لا سبيل للتفرقة والتفريق بينهم ولا مبرر لإقامة الأسيجة المستحدثة داخل هذه التعددية الاندماجية التوافقية التي ميزت الوطن العربي عبر التاريخ وشكلت ورسمت خطوط فسيفساء توافقية داخل كيانيته الجغرافية والبشرية وانسجامه القومي وأعطته رونقاً وإتساقاً بأكثر مما أعطته من تمايز وجفاء واختلاف.
وعلى ضوء ما تقدم فإن المشكلة (الأقلوية) ظهرت ووظفت كخيار وامكانية في المشروع الاستعماري قديماً وحديثاً ولم تكن مشكلة بين العرب والأمة العربية وأبناء الأقوام والأديان التي تقطن الوطن العربي منذ أمد وتتحدث بلغته وتتساكن مع بقية مواطنية في عيش مشترك سلمي وتوافقي وتصل حدود الانسجام بينهم إلى أعلى الدرجات سواء كانوا أكثريات وأقليات إذ لا أحد يحاصر أحداً بالأكثروية ولكن جهات خارجية وداخلية أرادت في الماضي وتريد في لحظة التراجع العربي الراهن الارتقاء بالتمايز الإثني الشعبوي الجزئي والمطموس تاريخياً وتهييجه لدرجة إيقاظ وإشعال الاختلاف والتغاير ورفض الاندماج وتصنيع فكرويات أقلوية ناشزة وهويات فائضة متطلعة للانفصال حتى ولو كان لا يحقق تقرير المصير بصورته الدولتيه المكتملة ولا التطلعات القومية المشروعة القابلة للتدارس والتفاهم حولها بما يضمن وحدة الوطن العربي ورفض الفكرة الاستعمارية المتأهبة والساعية تاريخياً وراهناً لتقسيمه وتفتيته.