في العشرين من الشهر الحالي يتوجّه الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى كندا، ولم يقل أحد لماذا هذه الزيارة، وبأي صفة يقوم بها، حتى لو كانت كندا من توابع الولايات المتحدة، خصوصاً في عهد بوش، وحتى لو كان محور النبأ رئيساً سابقاً للولايات المتحدة . لكن ليس هذا هو المهم، بل ما صدر عن منظمة العفو الدولية “أمنيستي” من دعوة للسلطات الكندية من أجل اعتقال الرئيس الأمريكي السابق خلال الزيارة المرتقبة، ومحاكمته على دوره في التعذيب . فالمنظمة الحقوقية الدولية ضمّنت مذكرتها إلى السلطات الكندية قضية جوهرية تتعلّق بمسؤولية بوش القانونية عن سلسلة من انتهاكات حقوق الإنسان، واستندت بذلك إلى انتهاكات وقعت خلال برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للاعتقال السري في الفترة الواقعة بين 2002 و،2009 وشملت تعذيباً وعقوبات قاسية ومهينة وحالات اختفاء قسري لمن اشتبهت إدارته بأنهم متورطون في “الإرهاب”، فنصّبت هذه الإدارة نفسها مدّعياً وقاضياً في الوقت ذاته، وسمحت بهذه الانتهاكات وشرعنتها، حيث أكد المزيد من الأدلة حدوث تعذيب وجرائم أخرى ضد المعتقلين تحت الوصاية العسكرية الأمريكية في أفغانستان ومعتقل غوانتنامو والعراق .
يقفز تساؤل إلى الأذهان: هل هذه الاتهامات جديدة أم كانت معروفة للقاصي والداني عندما كان بوش رئيساً للولايات المتحدة، وحتى بعد مغادرته المنصب؟ . تعلم “أمنيستي” والعالم كلّه أن التدخّلات الأمريكية في شؤون الدول الأخرى، بما في ذلك التدخلات العسكرية، تعدّ انتهاكاً لمبادئ العلاقات الدولية، وتتضمن بالضرورة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان .
ففي أفغانستان أزهقت أرواح وسالت دماء كثيرة في عمليات عسكرية أمريكية وأطلسية قيل إنها استهدفت “إرهابيين”، وتبيّن بعد ساعات أن الهدف الذي رصدته أدق الأقمار الصناعية لم يكن سوى مجموعة من رعاة الأغنام أو وليمة قبلية أو حفلة عرس، ثم ينتهي كل شيء ببيان يعرب عن “الأسف لهذا الخلل الفني” . وفي العراق بلغت الانتهاكات لحقوق الإنسان أوجها بالفظائع التي ارتكبت في سجن أبو غريب حيث حوّل الجلادون الأمريكيون السجن إلى “منطقة ألعاب”، وجعلوا من المعتقلين مادة للتسلية، وفرّغوا على أجسادهم شحنات من حقد التحريض وعقدة اللاجدوى وانعكاسات الفراغ الروحي والخواء الأخلاقي . وعندما كشف النقاب عن تلك الجرائم المثيرة للغضب والقرف، سرعان ما أسدل الستار عليها وكأنها فيلم سينمائي انتهى بموسيقا تصويرية، ولم يقل من عليه واجب القول إن المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية عن تلك الجرائم تقع على عاتق الإدارة الأمريكية بعد جيشها وأجهزتها ومخابراتها .
من واجب “أمنيستي” وغيرها من المنظمات الحقوقية، ومن واجب كل إنسان حر في العالم ألا يجعل انتهاكات حقوق الإنسان تمر وكأنها جزء من السياسة الدولية التقليدية . ومن المهم والضروري ألا تسقط القضايا بالتقادم، وأن يحاسب المسؤولون عنها، وأن يقدموا للمحاكمات . لكن الأكثر أهمية أن يحاكم هؤلاء المسؤولون عندما يكونون في مناصبهم، لأنه بهذه الوسيلة يمكن أن يشعر مسؤولون آخرون وفي مناطق أخرى أن لا حصانة لهم أمام استغلالهم مناصبهم في ارتكاب الجرائم والانتهاكات أو التغاضي عنها . لن تكون محاكمة بوش مثلاً، إن حصلت، بالجدوى ذاتها لو تمت أثناء توليه الرئاسة . كان يمكن أن يشعر الناس بشيء من الأمان، وأن يحدوهم الأمل بأن منطق المساءلة والمحاكمة سيردع أي مسؤول تسوّل له نفسه التسلي بكرامة البشر . لكن مع الأسف لم نصل إلى هذه المرحلة، لا سيما عندما
يكون المسؤول أمريكياً أو “إسرائيلياً” .
الخليج : 15/10/2011