أنظمة الطغيان آيلة للسقوط مهما تعاظمت قواها القمعيّة الذاتية، واستمدت مساعدة الأجنبي ودعمه المباشر وغير المباشر.
هذه ليست حكمة نظرية يرددها ضحايا القمع كي لا يموت أمل الخلاص في قلوبهم بل هي معرفة أولية بديهية برهنت عليها تجارب الأمم الحيّة. لكن القمع العربي كاد أن يعصف بهذه الحكمة أو المعرفة، كأنما أصبحت أنظمة الطغيان نتيجة طبيعية لمجتمع التخلّف. فهي الحصيلة المنطقية لأحوال التردي المعمم في مختلف شؤون الحياة للأفراد والجماعات. فما حدث للنهضة العربية أنها تم تعجيزها عن إحداث أية اختراقات لثقافة الحرية تحت أثقال الفقر والجهل وانعدام الشعور بالمسؤولية العامة لدى الجحافل البشرية الهائلة المستغرقة في مكابدة هموم العيش والبقاء الأولي. كانت هناك شبه حلقة مفرغة بين هذه الأحوال البائسة وانبثاق إرادة الوعي والتغيير، جماعيةٍ وقابلةٍ للانتظام الذاتي في مشاريع سياسية يمكن وصفها بالشعبية المتقدمة.
كانت طروحات التغيير ذات طبيعة نخبوية هابطة من أعلى ما فوق القاعدة الهرمية لمعظم مجتمعاتنا العربية. ولقد انشغلت هذه النُخب بالشأن السياسي الكلّي للدولة الاستقلالية الناشئة. كان نضالها موجهاً نحو العدو الخارجي، المُصرّ على انتقاص الاستقلال الوطني من أبسط شروطه الواقعية، وحرمانه من اكتساب سلطة السيادة الذاتية في أمور الخيارات السياسية حول مسيرة الدولة، سواء في المواقف الخارجية أو في خطط التنمية الداخلية وفق الأنظمة الاجتماعية المختارة بالإرادة الحرة. ما يمكن قوله انه خلال خمسين أو ستين عاماً من تاريخ الاستقلال الصوري كانت العشرون أو الثلاثة والعشرون من أشباه هذه الدولة، مجرد كُرات لعبٍ تتقاذفها تحولات السياسة الدولية من فوق رؤوس حكامها وشعوبها معاً.
فإذا ما حلَّ الوقت أخيراً لاستنقاذ هذه المرحلة فإنه، ربما يمكن القول أن معركة الاستقلال العربي الحقيقية قد انطلقت اليوم وليس قبل نصف قرن أو أكثر. فالانتفاضات الشعبية المتلاحقة لا تستهدف أنظمتها المستبدة وحدها، بقدر ما هي متوهجة ضد أصحاب هذه الأنظمة وأسيادها الفعليين، ما وراء البحار. ولعلّ هؤلاء الأخيرين قد تلقوا الرسالة، وإن لم يفهموها كلّياً بعد. لا يمكنهم التخلي عن وكلائهم بسهولة، وإن كانوا مضطرين للاستغناء عنهم، إن لم يحسن هؤلاء الدفاع عن انظمتهم بغير وسائل القمع والنهب المعتادة. حكومات الغرب الأوروبي تتحدث عن عصر الديمقراطية بعد فوات الأوان، وبعد أن فشل الوكلاء المحلّيون في اصطناع الأقل من مظاهرها طيلة أيام أمجادهم الغابرة. ليس ثمة صيغة ما قد تجمع بين الطاغية والضحية باسم الأخوة في المواطنة على الأقل. ليس بينهما سوى تلك العلاقة الرأسية الظلامية بين السيد والعبد. وبالتالي لا حلَّ للأزمة إلا بزوال أحد طرفيْ العلاقة.
ولما كان من المستحيل إزالة الشعب مهما كان مقهوراً، فقد يمكن الإبقاء على وجوده العضوي في الوقت الذي يتمّ فيه سحق وجوده الإنساني، هكذا: بدلاً من المجتمع النهضوي في ظل استقلال وطني سياسي، سيطر نموذج المجتمع البوليسي؛ بدلاً من بناء دولة الحريات العصرية المشروعة، فقد تمّ اختزالُها إلى مجرد سلطة الحكم المطلق. وبعد، كيف لا يرتدّ النوع البشري لذلك المجتمع، وتلك الدولة، إلى أرومة الجنس القروسطي، الخاضع لنظام الاسترقاق الجماعي ذي الرؤوس الثلاثة وهي: الإقطاع والملكية المطلقة والكنيسة المقدسة. ذلك كان يخص القروسطية الأوربية قبل الثورة الفرنسية. لكن استعمار الغرب فرض استنساخ قروسطيته البائدة، آتياً بها من ما وراء تاريخه الحداثي، ليُكبّل بها مستقبلَ الامم المتحررة من احتلاله العسكري السابق، مع الاختلاف فيما يتعلق بتسلّط الرأس الثالث، إذ تحل شبكيات التطويف والتمذهب التديني إسلاموياً مسيحياً (سنياً شيعياً)، عوضاً عن إقطاع الكنيسة الرومانية في أوروبا القديمة.
هكذا كان على النهضة المعاصرة أن تكافح، طيلةَ النصف الثاني من القرن الماضي، نوعين من هجوم القروسطية المتجددة، واحدة صاعدة من التخلف العربي المتوارث، والأخرى وافدة ومستنسخة عن القروسطية الأوربية المفروضة مع عودة الاستعمار الغربي أمريكياً أوروبياً معاً.فيما خلا بضع سنوات من اليقظة القومية مع العهد الناصري؛ بعدَها دخل الحاضر العربي تحت أشكال الإقطاعات الثلاثة، بصورة متوالية أولاً، ومن ثم مترادفة.
سرعان ما تمّ القضاء على اليقظة القومية مع تأسيس الدولة البوليسية المعسكرة (الإقطاع السياسي السلطوي). فتم بذلك حرمان المجتمع المستقل صورياً من أهم دينامية حيوية خلاقة، وهي الحريات الأولية لأجياله وطلائعه الصاعدة.
ومن ثم أفرز الإقطاع السلطوي قاعدته الاجتماعية مع تنمية شبكيات الإقطاع الاقتصادي، من الإنتاج الريعي والزبائنية والسمسرة المتفشية، المتحلّقة كلها حول السلطة ومفاتيحها المحتكرة بأيدي النخبة المتبطلة، وهي المتعاملة برأسماليات النفوذ السياسيوي وحدها.
في حين تنحدر الغالبيات العظمى من سكان هذه الدول/ القلاع، تدريجياً نحو مستنقعات البطالة الإجبارية، ينم تحييدُها عن أية أعمال إنتاجية غير موجودة أصلاً، يتمّ عزلُها عن ثقافة العصر، ينمّ حصارُ إنسانيتها في الحدود الدنيا من الارتكاسات الغريزية على منبهات الحياة اليومية، وهي المنتجة فقط للعوز والقهر، والمزيد كلَّ يوم من عوامل إذلال الإنسان في عين ذاته. وإذ يصل المجتمع إلى هذه الحالة من عطالة الوجود البشري والحضاري، يسهل دفعه واندفاعه نحو الانخراط تحت عباءة الاقطاع الغيبي، هذه الحلقة الثالثة ، من نموذج الاستبداد القروسطي، حيثما يصبح الظلم قدراً، والتظلّم أُدعيةً وطقوساً، والمصيرُ موتاً مديداً طيلةَ الحياة، أو فعلاً جهادياً استثنائياً.
كل هذا التراث الاقطاعي القروسطي المزدوج، أهلوياً أجنبياً معاً، تعايشت معه النهضة كما لو أنها هي النهضة المضادة لذاتها؛ لم تعد ثقافة البطالة المستديمة موضوعياً، والعطالة إنسانياً اجتماعياً، تذكّر أو توحي بزمن ما للثورة، غابراً أو مستقبلاً. فقَدَ الناس ذاكرة التغيير. أصبحت الأوضاع المزرية الميؤوسة هي القاعدة العامة، وليست شذوذاً عليها أبداً. لكن إنْ نسي الناسُ فالتاريخ لا ينسى. وإذ تنفجر الثورة فجأة يتساءل الناس هؤلاء من أين أتت وكيف حدثت، وهم لا يدرون أنهم هم فاعلوها الأصليون، وليس سواهم؛ سريعاً ما تغدو الثورة مُلْكية عامةً يدّعيها الجميعُ لأنفسهم. حتى أعداؤها السابقون قد يصير بعضهم من مروّجي شعاراتها، وبضائعها الجديدة.
هل نقول ان الشعوب العربية توشك أن تغادر معتقلاتها الدولانية. وأن بعضها قد يرى الحرية قبل غيره؛ لكن ثورة مصر مثلاً هي ثورة العرب جميعاً، فمنذ إنجاز إعتقالها أمريكياً إسرائيلياً، أصبح اعتقال بقية الشعوب العربية داخل أنظمتها الحديدية تحصيل حاصل، إلى حين يحطّم نيلُ مصر سدود الوحول حول شواطئه؛ عندئذٍ قد تفيض صحارى العرب جميعاً بأنهارها المدفونة تحت رمالها وطحالبها وعوسجها. خلال غياب مصر الثورة تحت الردة الفرعونية، تحولت كل (ثورات) العرب الأخرى إلى أضدادها. ابتُليت أعظمها، ثورة فلسطين، بأخطر أمراضها. بأسْرلة بعض قادتها، وجعلهم حفْنة من القَتَلة المحترفين لأبنائها، والبائعين لبقية وطنها.
لقد وُلدت إسرائيل ولادَتها الثانية الفعلية منذ أن أنجزت أمريكا اعتقالُ مصر الناصرية في قمقم كمب ديفيد. أنتجت معاهدة الاستسلام (كمب ديفيد) هذه، نظامَ حُكْمها الخاص بها بدلاً عن دولة مصر، صارت لهذا النظام مهمة الحارس لأمن إسرائيل الضامن لديمومتها، والمعطِّل لكل مشروعِ مقاومةٍ مصرية داخلية أو عربية، يمكن أن تستنجد بها بقيةُ الثورة الفلسطينية في الآتي من أيام تصفيتها المعدَّة لها والمرسومة بعناية (المعلّم) كيسنجر، الحالم بتهويد قارة العرب والإسلام، سياسياً إقتصادياً، من أجل ضمان الإبقاء على فلسطين يهوديةً إلى الأبد. وكاد الحلم الشيطاني هذا أن يتحقق لولا عودة الروح إلى الجَدَث العربي.. ربما.
ماذا يفكر الغرب؟ إن كان يقف عاجزاً أمام المد الثوري الجديد المتنقل من عاصمة عربية إلى أخرى، فإنه يخشى كذلك أن يظل عاجزاً عن إحباط مستقبلات هذا المد، كأنه استنفد كل أساليب التلغيم والإحباط، واغتيال الثورات والانتفاضات بأخطائها عينها، لكنه لن يكف عن عاداته القديمة تلك، أملاً منه، في أن تحركات المجتمعات المتخلفة قد يكرر جديدُها السقوطَ في ذات الحفر والمطبات التي تساقط فيها قديمها. ومع ذلك يبقى الرهان في هذا الحراك العربي الراهن أن جديده قد يأتي مختلفاً مع هذه الدورة من التغيير البنيوي والتاريخي غير المسبوق في سيرورة النهضة المعاصرة. ههنا يدخل أصحاب المصلحة الفورية في تفعيل هذا الحراك، وليس وكلاؤهم أو الناطقون عنهم بأسماء الأسباب والأهداف.
هل أصبحت الجماهير المحرومة من أبسط حقوقها الإنسانية، والمطعونة في كرامتها الوطنية، هي القائدة وهي القاعدة. قلّما أنتج الهرم الاجتماعي العربي قمته من أصول قاعدته وحدها. تونس والقاهرة، وسواها من حواضر الصحارى العربية، هل تعود ملكيتها أخيراً إلى أهلها. هذه العودة هي الخط الفاصل بين اليوم والأمس، بين تركات الماضي ودروسه الفاشلة من ناحية، ومعطيات الحاضر غير المقروءة بعد، هذا وإن كان تسجيل حروفها ونصوصها الملتهبة راح يتدفق من لحظة إلى أخرى، فالأمل ان تبقى الجمرات ناطقة بنورها.. ألاّ تختنق بدخانها سريعاً، كما يتمنّى أعداؤها.
الشباب العربي يحرر أمتُه من معتقلاتها القطرية، فارضاً وحدة الثورة والنهضة معاً..