علي محمد فخرو
نقرأ ونسمع ونشاهد يومياً أخبار واحد أو أكثر من الشباب المسلمين، ذكوراً وأحياناً إناثاً، من الذين لبسوا الأحزمة وفجَّروا أنفسهم في سوق مكتظ بالمارة المتسوٍّقين، أو في فندق مليء بالنزلاء الآمنين، أو في باحة مدرسة يتعلًّم فيها أطفال صغار أبرياء، أو قرب مستشفى يرقد فيه المرضى والعجزة ويعمل فيه من نذروا أنفسهم لخدمة الإنسانية. يتمُ كل ذلك تحت رايات تعابير مقدَّسة من مثل الجهاد والاستشهاد ويقحم اسم الله الحق الرحيم العادل الرؤوف الغفور في ساحات ومشاهد الدِّماء والأجسام المتقطعة والأشلاء المتناثرة المحروقة، في خلفية بكائية لجريح مشوًه أو أم ثكلى أو طفل ضائع تائه.
ولأنًه يحدث يومياً في أرض العرب وأرض الإسلام أو خارجهما تعوًّدت النفوس العربية والإسلامية عليه وشيئاً فشيئاً أصبحت القسوة مقبولة والفواجع قدراً لا رادًّ له. أصبح الأمر وباءً مقبولاً يميت الناس، لتتبعه الجنائز ودموع المقابر ومجالس العزاء، ثم تنفضَّ الجموع لتبدأ في الغد مسرحية تراجيدية جديدة يشاهدها جمهور جديد.
هذا وضع لا يرضاه الله، ولا تقبله رسالات السَّماء أو قواميس الإنسانية وحقوق البشر.إنه وضع لا يباركه ولا يقهقه له إلاً الشيطان. هذا وضع يجعل من ثقافتنا العربية الإسلامية ثقافة منبوذة ومن إنساننا مجرماً مافيوياً حيوانياً قاسياً، ومن بلداننا جحيماً لا يطاق. هذا وضع يجعل أسواق الكتب في العالم كلٍّه تستقبل يومياً كتباً لا عدً لها عن مسائل الجهاديين الانتحاريين فتتشوه صورتنا بشكل مفجع سنحتاج لأجيال بعد أجيال لتعديلها وإزالتها.
من الواضح أننا أمام جهاد مفترى عليه كما وصفه فهمي هويدي، وعلى استشهاد شوه بجهل وانتهازية، وكلا الأمرين يعملان تجريحاً وإيذاءً لدين القسط والحق والميزان والرحمة الذي باسمه يرتكب المرتكبون.
لقد نسي هؤلاء أن في القرآن الكريم نحو 100 آية تتحدث عن حرية التدين، وأن الله الحق قد وصف من يقتل إنساناً واحداً بغير حق فكأنّما قتل الناس جميعاً، وأن الجهاد له شروطه الصارمة التي لا تقبل الظُّلم ولا التعدٍّي ولا الخديعة ولا الغدر، وأن الاستشهاد لا يكون إلاُ في سبيل الله وضمن الطريق الذي رسمته رسالته.
ليس المجال هنا للدخول في تفاصيل هذين الموضوعين من الوجهة الدينية الأصولية ولا الفقهية، إذ كتب فيهما الكثير ومراجعهما لا تعدّ ولا تحصى. لكننا هنا نطرح السؤال الذي يحيٍّر الكثيرين:
هل أن القوى المجتمعيًّة العاقلة المؤثٍّرة المؤمنة بالعدل والتسامح في العالمين العربي والإسلامي تقوم بواجبها الكامل غير المتردٍّد، وتقول خطابها دون غمغمة ودون غموض، وتعلن بصوت مسموع فهمها الذي يرضي الله أولاً لما يعنيه تعبيرا الجهاد والاستشهاد، وتصنٍّف الذين يرتكبون الحماقات تجاه الأبرياء العزًّل تصنيف القرآن والسًّنة وأقوال الأطهار من علماء وقادة المسلمين، وتجيِّش ليل نهار كل المنابر الإعلامية والمساجد لإيصال صوت واحد متًّفق عليه من جميع عقلاء علماء الإسلام من كل مذهب بشأن مايخدش الإسلام الذي عرفناه ونعرفه ولكن لا نتعرًف عليه في ساحات الدٍّماء والأشلاء والدموع؟
إنها أسئلة كثيرة ولكنها في الواقع تندرج في سؤال واحد: ألا يمكن محاربة أعداء وظلمة ومستبيحي شعوب العرب والمسلمين دون ارتكاب مذابح الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوى تواجدهم البريء في هذا المكان أو ذاك؟
هل يعقل أن منظمات العمل الإسلامية، من مؤسسات حكومية وإقليمية ومن أحزاب وجمعيات ومن منابر إعلامية ومن ألوف المساجد ومن مدارس وجامعات ومن كتَّاب ومفكّرين، إن هؤلاء جميعاً لايستطيعون بناء تيَّار فكري ديني فاعل مقنع يواجه التيًّار الذي يجنًّد شباب الإسلام الأبرياء ويدفع نحو عمليات توصف بالجهادية الاستشهادية؟
مايوجب طرح هذه الأسئلة وصول الكثير من الأحزاب والجماعات الإسلامية إلى سدَّة الحكم وبالتالي تحُّمل المسئولية عًّما تواجهه الأمة. لقد كانت الأنظمة التي سبقتهم تحارب باسم القضاء على الإرهاب بشتًّى صنوف إرهاب الدولة واستبداد سلطاتها الأمنية والتلفيق الإعلامي الكاذب والإندماج في أجندات لدول أجنبية تمارس هي نفسها الموبقات والجرائم والإرهاب. فهل لنا أن نطمع في قيام جهد خالص لوجه الله متناسق ومتعاون تقوم به الأنظمة الجديدة في بلدان من مثل مصر وتونس وغيرهما لحل مسألة ماعادت تمظهراتها اليومية تطاق.