محمود القصاب
في ضوء المجريات الراهنة، والمشهد الداخلي في البلد، ليس من قبيل المبالغة القول إن حالة الجمود التي تطبع هذا المشهد؛ تجعل الجميع يدور في حلقة مفرغة وقاسية، بحيث لا أحد يعرف إلى أين سوف تقودنا هذه الأوضاع التي تقف على مفترق طرق سياسيّاً واجتماعيّاً وأمنيّاً. فكلما تضاءلت فرص الحلول السياسية؛ كان ذلك مدعاةً لمزيد من الخلافات وتعمقها بين السلطات وبين القوى السياسية المطالبة بالتغيير والإصلاحات من جهة، وبين القوى والأطراف السياسية على اختلاف مواقفها وتوجهاتها من جهة ثانية.
ومعنى ذلك استمرار الحراك الشعبي وتصاعده، وأيضاً استمرار اعتماد الدولة على الخيارات الأمنية في التعامل مع هذا الحراك، وهو ما يعني تعمق المأزق الراهن، وتزايد حالات التوتر والتجاذب السياسي، والاحتقان الطائفي. وهكذا سوف يجد الكل نفسه أمام حالة معقدة تختلط فيها الأسباب بالنتائج، وتتحول معها البلاد إلى بيئة صانعة للأزمات وطاردة للاستقرار، وكلما أراد البلد تفكيك خيوط أزمة معينة والبحث عن حلول لها وجد نفسه غارقاً في أزمة جديدة.
لكل هذه الأسباب؛ فإنه لا سبيل لوقف هذا التناسل للأزمات، والاندفاع نحو المجهول، سوى كسر حالة الجمود الراهنة، وهذه مسئولية الدولة في المقام الأول؛ لأنها تملك القدرة والقرار على تقديم مبادرة سياسية ترتكز على إصلاحات جوهرية، من شأنها أن تسهم في تغيير المعادلة السياسية وتستجيب للمطالب وللمظالم الشعبية، السياسية منها والاجتماعية.
أما مسئولية القوى السياسية؛ فإنها مطالبة بقراءة الوضع الراهن قراءة صحيحة وبعناية للتوصل إلى الاستنتاج الصحيح والموقف الوطني الصائب والمسئول، وهو الموقف الذي يجب أن ينطلق أساساً من المصلحة العامة، والحرص على ترميم أوضاع البلد بعد التصدع الذي تعرض له وحمايته من الانتكاسات والعواصف الإقليمية المتوقعة.
والشيء الوحيد الذي يمكن أن يؤمّن حائط صدٍّ للبلد من هذه المخاطر؛ هو إنجاز تسوية سياسية تأريخية بين كل شركاء الوطن، والاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة مهما تكن مؤلمة، ويمكن للدولة من خلال مبادرتها أن توفر مظلة وطنية جامعة وتؤمن فرص نجاح المصالحة الوطنية المطلوبة.
فلم يعد خافياً أن الوضع الإقليمي يغلب عليه اليوم مناخ الصراعات وأجواء الفتن الطائفية، والتي يراد لها أن تكون صراعاً «سنيّاً شيعيّاً»، والذي تعمل قوى إقليمية ودولية على تأجيجه وتوظيفه لخدمة مصالحها ومشاريعها بأدوات محلية في هذه الدولة أو تلك. وهو نزاع تشهده المنطقة للمرة الأولى بهذه القسوة والشراسة، وكان من نتائجه المؤسفة بعض الخصومات السياسية الاجتماعية التي بلغت حد الفجور.
وهذه حقائق قائمة يجب علينا عدم إنكارها أو تجاهلها، والاختباء خلف بعض الشعارات والعبارات الجميلة البراقة مثل «قيم التعايش» و»المجتمع الواحد»، فالواقع أن هذه الوحدة قد ضربت في مقتل، وإن قيم وأسس التعايش قد مسها «قرح» شديد.
وفي ضوء هذه الوقائع المريرة، والظروف الموجعة؛ فإن كل ما نتمناه أن يكون تحرك كل الأطراف إيجابيّاً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن نجد أنفسنا ومعنا البلد كله، غارقين في «فائض» الصراعات الطائفية المشتعلة في العديد من الأقطار العربية، والتي تأخذ أبعاداً خطيرة باتت تهدد وحدة ووجود هذه الأقطار، وعندها سوف تجد جميع الأطراف المتصارعة نفسها وقد تحوّلت إلى مجرد أوراق في هذه الصراعات الإقليمية ولعبة المساومات فيها.
ولم يعد هناك مجال للشك في أن مثل هذه المناخات هي التي توفر البيئة الحاضنة للفئات والعناصر المتطرفة، وتسهل اختراقها لبعض المجالات والمواقع في الساحة الوطنية، وتمكنها بالتالي من فرض أفكارها الظلامية وسياساتها الظالمة. وما حصل في البحرين في أعقاب تفجر الأزمة السياسية يمثل نموذجاً صارخاً ومفجعاً لهذه الحالة، وقد رأينا مع بدء طأفنة الصراع السياسي، كيف طالت تلك السياسات والقرارات المجحفة أرزاق وحياة ومستقبل الكثير من المواطنين، بعد أن أطلقت تلك القوى المتطرفة العنان لغرائزها الانتقامية وأحقادها الطائفية، وبعد أن أسقطت من حساباتها كل قيم التعايش الأخوي وداست بأقدامها كل المبادئ الإنسانية، وراحت تبتلع الدولة بكل مؤسساتها ومفاصلها غير عابئةٍ بكل التداعيات الخطيرة لمثل هذه السياسة.
وعلى رغم كل هذه الجراح الغائرة والصورة القاتمة؛ فإننا لم نفقد الأمل يوماً في إيجاد مخرج لهذه الأزمة المستعصية، بل كنا نرى أن البحرين باستطاعتها دوماً تقديم نموذج بالضد من هذا المناخ المتأزم سياسيّاً والمحتقن طائفيّاً، وإن أبواب الحل لم توصد، وإن طريق المصالحة سيبقى سالكاً متى ما سمح للعقل والحكمة أن يتغلبا على «الجنون السياسي» و»السعير الطائفي»، اللذين يتحكمان بقرارات وحسابات بعض القوى السياسية.
نقول ذلك وليس لدينا أوهام حول مدى وعمق الخلافات التي هي اليوم سبب هذا الانقسام والتباعد في المواقف بين القوى السياسية والخروج من المتاهة الطائفية، كما ندرك جيداً أن بعض هذه القوى ليس بمقدورها تغيير مواقفها بين ليلة وضحاها بعد أن عبأت الشارع بصورةٍ انفعالية، وشحنته بهستيريا طائفية لم يعتدها مجتمعنا من قبل، عندما قامت بصب الزيت لتسعير الصراع المذهبي، وراحت تكرّس خطابها الإعلامي بوحي من هذه الغرائز المنفلتة والمدمرة، التي كان من نتائجها مزيدٌ من التباعد واتساع الخنادق، ورفض الأيدي الممدودة للحوار والمصالحة. لذلك فإن أي تراجع أو مراجعة لمثل هذه المواقف المتصلبة من جانب هذه القوى سوف تبدو وكأنها تنازل للطرف الآخر.
وهذه النظرة القاصرة التي تفتقر إلى الأفق السياسي الرحب والشجاع، هي التي تفسر غياب هذه القوى على مستوى الفعل السياسي الحقيقي واقتصار حضورها على صعيد ردود الفعل فقط، فهي عاجزة عن تقديم أية مبادرة سياسية تحدّد فيها رؤيتها للحل، لكنها تقيم الدنيا ولا تقعدها لمجرد أن القضاء خفف بعض أحكام المعتقلين السياسيين، ولا تجد أية غضاضةٍ في اتهام القضاء بـ «عدم النزاهة» و«خضوعه للضغوط السياسية»، عندما تخالف أحكامه أهواءها الطائفية.
مع كل هذه الوقائع التي باتت واضحة للقاصي والداني، لا يجب علينا الاستسلام، وكأن ما هو قائم اليوم قدر محتوم لا سبيل للفكاك منه، بل على العكس، يجب أن يكون حافزاً لنا ودافعاً لمضاعفة الجهود والتحرك في اتجاه كل الأطراف للبحث عما يجمع أو يكون عاملاً مساعداً يمكن الانطلاق منه لتحريك المياه الراكدة وإنعاش الضمائر النائمة، لأن الركون إلى السلبية والتفرج على ما يحصل؛ معناه ترك الوطن في انقساماته العميقة، بانتظار الفتنة. ومعناه ترك الساحة لحطابي المحرقة يزيدونها اشتعالاً، لنصحو يوماً نبحث عن وطن أو بعض وطن فلا نجده.
لذلك سنبقى دائماً، على رغم قتامة المشهد، نعوّل على المواقف الوطنية العاقلة والموزونة، وسوف نستمر في مطالبتنا للدولة بإعادة النظر في سياساتها الراهنة، والشروع في اتخاذ الخطوات الصحيحة والجريئة وفتح أبواب الحلول السياسية.
أما القوى والأطراف التي تجد نفسها أسيرةً لمواقفها السلبية، وأسيرة للعناد والمكابرة، عليها أن تعي أن التسلط السياسي والطائفي والتمسك بالنهج الإقصائي لا يمكن الاستمرار فيه إلى ما لا نهاية. وعليها أن تدرك أيضاً أن سياسات العزل والاستحواذ التي سمحت بها بعض الظروف غير المتوازنة وغير العادلة، لم تعد ممكنة أو نافعة بعد اليوم في ظل المتغيرات والتوجهات السائدة في المنطقة والعالم، مع تشكل واقع سياسي واجتماعي جديد ضاغط في اتجاه الحريات والحقوق السياسية والاجتماعية، ونشوء مستويات عالية من الوعي السياسي والحقوقي والاجتماعي عند المواطنين، وسقوط حاجز الخوف لديهم، ما يعني استحالة العودة إلى الماضي المثقل بالقيود والتجاوزات والمظالم، حتى لو تم الذهاب بالخيارات الأمنية إلى أبعد مداها.
لذلك؛ فإن أقصر الطرق وأسهلها لوقف حالة الاستنزاف التي يعاني منها البلد حاليّاً، هو التجاوب مع حقوق الناس، وليس من سبيل إلى هذا الطريق سوى صعود القطار المتجه إلى المستقبل، والدخول إلى عالم المواطنة والديمقراطية التي تحترم كل الأطياف والمكونات وتعترف بحقوقها، وهذا يتطلب إعادة التوازن المفقود إلى المعادلة السياسية والاجتماعية القائمة، وتهيئة سبل المصالحة الوطنية عن طرق الحوار. نعم، الحوار الحقيقي والصادق والشفاف، وليس الزفّات أو الحفلات الإعلامية التي تقرع فيها الدفوف ويحرق فيها البخور وحصليتها تقارب العدم.