تتضافر جهود الشعب والأحزاب وتتكامل في عملية التغيير. وإذا نشط أحدهما من دون الآخر فستبقى نتائج عملية التغيير منقوصة، وغير مكتملة. فحركة الأحزاب تبقى في برج عاجي إذا لم يتحرك الشعب، وتبقى حركة الشعب من دون حركة الأحزاب كسفينة تائهة في البحر من دون مرشد يُصوِّب لها اتجاهاتها.
بعد تجربة الأحزاب الذهبية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين حتى الآن، ظلَّت ثنائية (الشعب – الحزب) غائبة عن الساحة العربية طوال عقود من الزمن، بذلت فيه قوى الليبرالية، وثقافة العولمة المشوَّهة، وكذلك قوى الرأسمالية، كل جهودها لتمويت مفهوم الأحزاب السياسية وإضعاف تأثيرها الشعبي وتشويه دورها الأساسي، فنجحت إلى حد كبير في الحد من هذا الدور. فغرقت الأحزاب في أزمة غابت في دهاليزها العلاقة السليمة بين الأحزاب وجماهيرها وغاب دورها وضعف تأثيرها، وغابت معها حركة الشارع العربي التي كانت ناشطة في الحقول المطلبية والإصلاحية كما غابت حركتها عن تأييد شتى القضايا القومية. ولذلك طرح جمود حركة الاحتجاج العربية طوال عقود من الزمن الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تدور حول تحميل المسؤولية لمن؟ هل سبب حالة الجمود يعود إلى الشعب؟ أم أنه يعود إلى الأحزاب؟
أما الآن، الآن، وليس غداً، فتململ الشعب وتحرَّك الشارع في حركة احتجاج قلَّ نظيرها، وظلَّ دور الأحزاب غائباً وجامداً يلفُّه الصقيع من شمال المتجمد القطبي إلى جنوبه، فإلى أين المصير؟ وما هو السبب؟
من المعلوم، تقليدياً، أن الشعب عندما يجوع أو يمرض أو يُحرم من حقوقه يتألم، ثم يتلوى من الألم، ثم يصرخ، ثم يرفع الصراخ. يحصل هذا إذا كان الحزب موجوداً أم لم يكن. ولكن ما أضافه مفهوم الحزب هو أنه جاء لينظَّم حركة الشعب الاعتراضية، والرافضة. كما جاء ليُسرِّع بحركة الاحتجاج لأنه يدرس أسبابها، ويزرع ثقافة وعي تلك الأسباب، ويخطط من أجل إدامتها واستمرارها. يُخطط لها ويصونها من الانحراف أو الضياع.
في اللحظة الراهنة، يتحرك الشعب من دون أحزاب، وكأن قانون التلازم بين رفض الشعب وقدرة الحزب على التنظيم يشهد خللاً لا بُدَّ من التفتيش عن أسبابه. وكما نحسب تعود أسباب الخلل إلى أن الأحزاب تعاني من أزمة بنيوية داخلية، تغلَّب فيها الشكل على الجوهر، إذ تحوَّل العمل الحزبي إلى روتين إداري وأصبح كأنه البديل لمفهوم القيادة، بينما تحتاج الأحزاب إلى قيادة وليس لإدارة. قيادة تُعمم عامل الابتكار في شتى وظائف الحزبيين بما يجب أن يمتلكوه من وعي فكري ونضالي وسياسي، كما تعمم روح التجديد من حيث النظر لمشاكل المواطنين ومعاناتهم، وكذلك التجديد في الوسائل النضالية. وهنا ينعكس النهج القيادي السليم بشكل إيجابي على مجمل التركيب الداخلي للحزب، ويسمه بحرارة متوقدة تتعامل مع مشاكل المواطنين بحيوية ونضالية متواصلة. أما الروتين الإداري فيجمِّد العمل الحزبي ويحاصره ويحافظ على شكله، بينما النهج القيادي يحرك الأداء الحزبي ويضخ فيه حرارة النضال والتضحية.
في هذه المرحلة، وطوال عقود، ولَّى عامل الابتكار وفقد أهميته في العمل الحزبي، ليس من حيث التراكم النظري فحسب، بل من حيث الأداء والتطبيق أيضاً. إن الابتكار في الجانب النظري أصبح نقداً نادراً لفَّه الجمود على الرغم من التراكم المعرفي في تجربة الأحزاب الذي أصبح من الحجم الذي لا يستطيع الملتزم أن يلمَّ بها إلاَّ بسنوات من التثقيف الحزبي والذاتي. لكن ما يكبحه ويحول دون تحويله إلى مادة نظرية حية تحرك أعماق وجدان الحزبي وتهزه هو الروتين الببغائي في طرائق التثقيف، والحؤول دون التجديد في وسائل المعرفة ومضمونها بما يتناسب مع طبيعة المراحل السياسية والاجتماعية.
إن السبب الذي أحال حرارة العمل الحزبي، كما عرفته أجيال الأحزاب المخضرمة، إلى صقيع، يعود إلى تحويل مفهوم الثورة في الحزب إلى نهج سلطوي، ليس بمعنى أن الأحزاب الحاكمة هي التي تحوَّلت إلى أحزاب سلطوية فحسب، بل إن جمود الأحزاب التي لم تصل إلى السلطة أصبحت أحزاباً سلطوية أيضاً بوسائلها وطرائقها المعرفية. وحصل هذا عندما مسخت مفهوم القيادة وحوَّلته إلى مفهوم إداري، وجمَّدت عند حدوده كل موجبات التجديد والابتكار ليس في الوسائل المعرفية فحسب، بل في الوسائل النضالية أيضاً.
ولكي لا نتحول إلى مجرد كَتَبَةٍ ينظرون إلى الأرض من برج عاجي، بل لنثبت أن قولنا نتاج تجربة حصلت، نستعيد ما قمنا بحصاده من تجربتنا العربية المعاصرة، فنرى ما يلي:
في عصرنا الراهن، ولم تمض أجيال كثيرة عليه، قضت عقائد بعض الأحزاب العربية، وفي المقدمة منها حزب البعث العربي الاشتراكي، على ثقافة الاستسلام لإرادة الغرب والصهيونية التي كان البعض يبررها بذريعة الخلل بميزان القوى، فابتكرت نظرية المقاومة الشعبية لسد النقص في توازن القوى بين الاستعمار والصهيونية من جهة، وقوى الجيوش النظامية العربية من جهة أخرى. وبمثل هذا الابتكار اختلَّ التوازن بالقوى، ولكن هذه المرة مالت الموازين لمصلحة الشعب العربي. ولهذا تحوَّلت ظاهرة المقاومة الشعبية إلى استراتيجية العصر العربي في التحرر من الاستعمار وكل مظاهر الاحتلال ووسائله ووجوهه. وحوَّلت ظاهرة المقاومة الزمن العربي الراهن إلى مرحلة ذهبية من الانتصارات العربية. وفي المقابل تحولت المرحلة الاستعمارية إلى مرحلة من الهزائم المتواصلة. وتحققت في مرحلة تغيير الموازين إنجازات كبرى من الصعب أن لا تترك آثارها الإيجابية على صياغة التاريخ العربي القادم.
في هذه المرحلة، هزمت المقاومة الوطنية العراقية المشروع الإمبراطوري الأميركي ووضعت الولايات المتحدة الأميركية على حافة الانهيار. وأطاحت المقاومة الوطنية اللبنانية بأحلام الصهيونية في إدامة احتلالها العسكري للأراضي اللبنانية. وجمَّدت المقاومة الوطنية الفلسطينية مشروع صهينة الأمة العربية إلى الأبد. ولهذا ما تزال المقاومة العربية حتى الآن المعول الذي يهدم في جدران مشاريع الاستعمار والصهيونية، وما تزال تحفر لهما قبراً لن يفيدهما من النزول فيه التفاف على المقاومة أو حصار أو دوران.
أليست استراتيجية الاستفادة من الطاقة الشعبية ابتكاراً حزبياً تعود أسبابه إلى دراسة ميدانية للواقع البائس الذي بدا في مرحلة كأنه عصيٌّ على الحل في حده الأدنى، ومستحيل على الحل في حده الأقصى؟ وأليس هذا الابتكار إلاَّ انتصاراً لمفهوم القيادة على مفهوم الإدارة؟ وأليس نجاح الاستراتيجية إلاَّ دليلاً على قوة التلاحم بين عامليْ القيادة الحزبية وحرارة القناعة الشعبية؟
ولكن ماذا نرى في مرحلة الحراك الشعبي العربي الآن؟
عاشت المقاومة الشعبية، وفي المقابل تلاشى دور الأحزاب، ولم يبق منها حيٌّ إلاَّ من نزل إلى الخندق المواجه للاحتلال. لقد مات من لم يتحول إلى حزب مقاوم. والجزء من الحزب الذي أسس للمقاومة ونجح في قيادتها واستمر يقاوم في الخنادق بقي حياً، بينما الذي لم يتحول منه إلى الخندق أو إلى داعم حقيقي للمقاومين تحول إلى شكل فارغ من المضمون النضالي، بل ظلَّت تنخره أشكال الروتين القاتل، والبروقراطية المكتبية. فإلى متى؟
عندما تخندقت الأحزاب وقياداتها وراء متاريس المقاومة الشعبية، مقاومة الاحتلال، تجدَّدت حيويتها، وكُتبت لها أسباب الاستمرار. ومن احتلَّ موقعه وراء المكاتب فقد راح يحفر له قبراً قد تنزلق أقدامه إليه إذا ما استمر الحال على هذا المنوال.
وبهذا تكون المقاومة الشعبية قد أعادت للحزب العربي معناه ودوره، وصحَّحت عنه الصورة التي تمَّ تشويهها من الليبراليين والأجهزة الإعلامية المعادية من رأسمالية وصهيونية. فهل تلتقط هذه الأحزاب فرصة حيوية المقاومة العسكرية، وتعمل على تصحيح مساراتها؟
تقف الأحزاب العربية اليوم في مواجهة تحديين رئيسين، وهما: كيف تستفيد من زخم المقاومة الشعبية العربية أولاً، وزخم الحراك الشعبي العربي ثانياً.
-عامل المقاومة الشعبية العربية: من المؤسف أن معظم الأحزاب العربية، ومعظم الشخصيات المعنوية العربية، كالت مواقفها من المقاومة التي تجري في فلسطين ولبنان والعراق على أسس تعصبية ضيقة. وبعضها بنى مواقفه على مقاييس مواقف الأنظمة الداعمة لها. ولذلك ظهرت تلك المواقف منحازة وليست حيادية، ولذا غُيِّبت المقاومة العراقية عن المسرح الإعلامي لتلك الأحزاب لأنها لا تفتقد إلى تأييد نظام رسمي واحد فحسب، بل لأنها لا تحضى بتأييد نظامي رسمي أيضاً.
وإذا كانت حرارة المقاومة الشعبية العربية لم تُذِب صقيع الموقف الحزبي العربي، فلأن موقف هذا الحزب التحق بمواقف الأنظمة، أو أقله قلدها بفكر حزبي سلطوي، بفكر كان خائفاً من الاصطدام بالنظام الرسمي. وإن لم تميز الأحزاب مواقفها عن مواقف الأنظمة، فستظل المواقف من المقاومة في العراق يتيمة على موائد تلك الأنظمة، بينما الأحزاب العربية هي الأولى بدعم تلك المقاومة لأنها لا تقاتل من أجل تحرير العراق فحسب، بل تقاتل بالنيابة عن الحركة الحزبية العربية أيضاً. وهذه خسارة كبرى للحزب العربي الذي لم يعرف كيف يستفيد من أهم الظواهر التاريخية التي أعادت او ستعيد له ألقه ودوره وتعيده إلى الأضواء من البوابة الثورية بعد أن تمَّ تدجينه في مآوي الأنظمة.
-الحراك الشعبي العربي: وقد خرجنا من متاهة السفسطة التي تقوم على أساس من يجب أن يكون البادئ بالحراك: أهو الشعب؟ أم الحزب؟ فالشعب تململ وتحرك، بعد أن تألَّم وجاع ونُكب بالعوز، وسُرقت حريته، وقُيِّد بالأغلال وقِيد إلى المعتقلات والسجون. ولكن ما بال الأحزاب قد غابت؟
لقد اختلَّت موازين العلاقة الوثيقة بين قطبيْ التغيير. برز دور قطب وغاب دور الآخر. وهنا تكمن الأزمة، ومن هنا يجب أن نفتش عن علاجها، وعن سُبل إعادة رتق خيوط العلاقة التي انقطعت ووضعها في مسار العلاقة السليمة التي تعيد توحيد القطبين: الشعب الثائر والحزب المنظم.
في هذه المرحلة، أدَّى الشعب واجبه، وقام بدوره، ودفع الثمن، وما يزال. فهل يستفيق الحزب العربي من سباته؟ وإذا كان السبب في أنه يعاني من داء أزمة مزمنة، فإلى متى يهمل علاجها؟
إننا نحسب أن الحزب العربي لن يستفيق من سباته طالما حافظ على شكلية العمل الحزبي، وطالما امتنع عن التجديد في بنيته الفكرية والنضالية، لأن الكثير منها قد استساغ أن يعيش في ظل نظام أو في ظل سلطة، أو أقله بفكر سلطوي وأداء سلطوي. وإذا كانت بعض الأحزاب، ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، لم يدع قيود السلطة تكبِّل حركته، بل جدد حيويته في ظل ظروف الاحتلال، وأعاد بناء نفسه على أسس ثورية من خلال المقاومة بعد أن استفاد من ظروف السلطة ووظَّف إمكانياتها لمصلحة الثورة، بحيث لم يدع السلطة تؤبد وسائل نضاله من وراء المكاتب، بل نزل بمكاتبه إلى الخنادق بتجربة لم يعهدها حزب آخر على سطح الكرة الأرضية، خاصة إذا كان الحزب بالسلطة.
أما الحل، كما نحسب، فيستند إلى صرخة أولى نطلقها على طريق الألف صرخة، ومفادها أن يخترق حزب ما جدار الأزمة الحزبية العربية الراهنة، ويبادر إلى دعوة من بقيت له أذنان تسمع، من أجل عقد ولو مؤتمر (على الفايسبوك) لدراسة إشكالية الانفصام الحاصلة التي تحول دون إعادة اللقاء الحميم بين حراك الشعب الثائر وحراك الحزب المنظِّم.
وإذا كان أنموذج استراتيجية المقاومة الشعبية قد أعاد التوازن بين عامل التحرر والاحتلال، فنعتبر أن للمقاومة أشكالاً وأصنافاً، فليست المقاومة العسكرية إلاَّ أحد أهم وجوهها، والحزب الذي لا تُتاح له فرصة المقاومة العسكرية، فأمامه الآن فرصة الحراك الشعبي العربي، وخنادقه الشوارع، ولكي لا يبقى الحزب غائباً تاركاً الشعب يقدِّم ويضحي كسفينة تائهة في البحر من دون رقيب حريص على توجيه مسار السفينة، خاصة أن القوى الخارجية تنخرط بقوة وزخم لافتين في كل حراك، فعليه أن يتململ من سباته ليعيد صلته بالشعب حتى ولو بالموقف على أن يكون مسؤولاً وبعيداً عن موقف الرافع للعتب. ولعلَّ وعسى أن تُذيب حرارة حراك الشعب صقيع الأحزاب العربية