د. مثنى عبدالله
باحث سياسي عراقي
راهن الكثيرون على العملية السياسية في العراق، في لحظة غيبوبة عن الوعي السياسي وأنتشار أمية المفاهيم الخاطئة والعاجزة عن وصف الحالة التي يمر بها الوطن. كان بعضهم كتاب ومثقفون ورجال دين وشيوخ قبائل ووجهاء إجتماعيون وسياسيون من كل الاطياف الفكرية، رهنوا أقلامهم وتصريحاتهم وأفعالهم لدى الممولين الدوليين والاقليميين الراعين لهذه العملية الفاسدة، حتى بات كل من يعارض هذا المنهج السياسي التدميري، ويوضح حجم الاخطار الناتجة عنه بصيغة أستحقاقات سياسية وأقتصادية وأمنية وأجتماعية وتربوية سيدفعها الشعب والوطن، هدفا لحملاتهم المنظمة بقوة المال السياسي وأجهزة السلطة القمعية وهوس الانتماءات الطائفية والعرقية.
ولأن قراءة التاريخ ليست حكرا على أحد، لكنها عملية شاقة تتطلب من القائمين عليها عقلا وضميرا يستطيع أستخلاص الدروس والعبر كي يوظفها في عملية أستشراف المستقبل، فقد صدقت كل الاستنتاجات التي رصدت الانحدار الحتمي للخط البياني للعملية السياسية منذ اليوم الاول لانطلاقتها، والتي كان الكثير من الانتهازيين والنفعيين ولصوص المال العام يعتبرون تلك القراءة الواقعية مجرد أضغاث أحلام، وأن الولايات المتحدة الامريكية هي صمام أمانها وديمومة أستمراريتها، فشاحوا بأبصارهم عن كل الجرائم التي أرتكبت بدعوى صنع العراق الجديد، وصموا أذانهم عن التصريحات الواضحة والجلية لشخوص العملية السياسية، الذين نعوها مرات عديدة وعابوها سواء بدوافع حقيقية أو أنتهازية.
وعلى الرغم من أرتفاع الغبار السياسي الذي يلف المشهد العراقي نتيجة أنهيار أركان الهيكل السياسي على رؤوس رموزه، نجد أن البعض مازال مصرا على التبشير بالنهج الذي تسير عليه (الدولة العراقية) منذ العام 2003 وحتى اليوم، لأنهم لايمتلكون ثقافة المراجعة، ولا شجاعة العودة عن الخطأ، وباتت العملية السياسية بالنسبة لهم مجرد ساحة مراهنات لايستطيعون مغادرتها، بعد أن رهنوا فيها حاضرهم ومستقبلهم.
وأمعانا منهم في تكبيد الشعب والوطن المزيد من الخسائر المادية والمعنوية مقابل ثرائهم وأستمرار مناصبهم، راحوا اليوم يتقافزون للالتفاف على الانهيار الاكيد بأنتاج خارطة تحالفات سياسية جديدة، محاولين التبرؤ من كل الاعباء التي تحمّلها المواطن على أنها أخطاء شخص واحد وحزب واحد، بينما الجريمة كانت مشتركة من قبل الجميع في التخطيط والتنفيذ وفي الاصرار على أستمرار النهج.
إن الحالة السياسية الراهنة في العراق تعيدنا بالذاكرة الى ماجرى بعد الانتخابات الاخيرة عشية تشكيل الحكومة الحالية، حينما برز نفس السيناريو الحالي مترافقا مع الكثير من الشتائم والاتهامات، والتهديد بتحريك المليشيات وما يسمى القطعات العسكرية والاجهزة الامنية بين الداعمين للمالكي والمعارضين له، بل ذهب أحد قادة القائمة العراقية الى مدى أبعد في التهديد، حينما قال لن يعود المالكي رئيسا للوزراء ولو على جثتي، مما أعطى المتفائلين بأمكانية تعديل العملية السياسية من الداخل كما يزعمون، زخما أكبر لإستمرار التبشير بنظريتهم العمياء عن الواقع.
لكن المالكي عاد مجددا برغم كل ماقيل لأن من قالوا وهددوا وتوعدوا ليسوا صُنّاع العملية السياسية الحقيقيين، بل هم أطراف لايملكون حيزا أكبر مما هو مرسوم لهم وللمالكي أيضا، ولاحظنا كيف أن الظرف الذي كان سائدا في الحكومة المالكية الاولى، عاد الى تسّييد الواقع العراقي في ظل الحكومة المالكية الثانية، بنفس الزخم الانحداري السياسي والامني والاقتصادي والاجتماعي، الذي كان سائدا أن لم يكن أكثر سوءا من سابقه، بل عادت الصراعات السياسية بزخم أكبر من السابق حتى أصبح مفتوحا على كل الاحتمالات المتوقعة والمفاجئة.
إن القوى التي صنعت أتفاقية أربيل التي وضعت الطالباني رئيسا للجمهورية، والمالكي رئيسا للوزراء، والنجيفي رئيسا للبرلمان بصفقة واحدة، والتي هدأت كل ذلك الصراع الذي دار لمدة تسعة أشهر في لحظة واحدة، هي مازالت موجودة على الساحة السياسية، وهي وحدها التي لازالت تملك عملية صنع القرار في العراق. فما الذي يدعو الدبلوماسية الامريكية في عمان هذه الايام للتحرك بهدوء تام على عدد من السياسيين العراقيين الذين تولوا مناصب سابقة في الدولة العراقية، لإستمزاج أرائهم فيما هو مقبل في العراق من خلال سؤال واحد محدد تم طرحه عليهم هو، لو كنت رئيسا للوزراء في العراق فما هي التشكيلة الوزارية التي ستشكلها، وهل سيكون الطاقم الوزاري من نفس الاحزاب الحالية؟
ثم ما الذي يدعو المرشد الاعلى الايراني لإرسال أقرب مساعديه في زيارة سرية الى العراق في الايام القليلة الماضية، باحثا مع من التقاهم عن النسيج السياسي الطائفي المطلوب في التشكيلة الوزارية القادمة؟
إن السؤالين أنفي الذكر المطروحين من قبل الامريكان والايرانيين والذي يمكن أكتشاف القاسم المشترك الاعظم بينهما بسهولة تامة، أنما يدلل بأن هاتين القوتين مازالتا ممسكتين بكل تفاصيل الحالة العراقية، على الرغم من أن بعض حلفائهم في العملية السياسية يتظاهرون بأنهم قد شقوا عصا الطاعة عليهم في بعض الاحيان من خلال تصريحات يتيمة هنا وهناك. لكن ذلك لايؤثر في قوة نفوذهما، لأن الزخم الامريكي والايراني بات موجودا في البنية الهيكلية لمؤسسات الدولة العراقية وليس في الوجوه المتواجدة في الساحة، وأن من الخطأ التصور أن صناع القرار الامريكي والايراني قد وضعوا كل بيضهم في سلة هذا وذاك من أطراف العملية السياسية.
عليه فإن هذا التحرك يؤكد مجددا وجود تفاهم أمريكي أيراني مشترك على الابقاء على حدود مصالحهم متوازية وليست متقاطعة في العراق، وأن القادم يجب أن يكون متفقا عليه بين الطرفين، كما أن حدود الفوضى السياسية القائمة الآن في المشهد العراقي هي لازالت في حدود ما يسمى الاضطراب المسيطر عليه، والتي قد يتخيل البعض خطأ أنها دليل على أنحسار النفوذ الخارجي في العراق. لكن ذلك لايعني بأي حال من الاحوال بأن العملية السياسية كمنظومة هي في حالة صحية جيدة بل على العكس من ذلك، فلقد عقد الامريكان العزم على التضحية بعدد من شخوصها في سبيل أنقاذ هذه المنظومة، وسوف لن يكون طارق الهاشمي أول الشخوص المُضحى بهم على أعتاب العملية السياسية، الذي صمت الامريكان عن التدخل في موضوعه، بل سيتبعه أخرون من الطرف الاخر لتحقيق التوازن حتى في مسألة التخلص من القيادات النافقة.
وكذلك لتحقيق حالة من الرضا لدى الطرف الذي كان يدعي الهاشمي تمثيله، للحفاظ على حالة توازن الرعب التي خلقها الامريكان بين أحزاب الاسلام السياسي الطائفي. فهل سيكون نوري المالكي في منأى عن عملية التشذيب التي يقودها الامريكان لتجديد ثوب العملية السياسية، أي أنه سيكون مشمولا بهذا التوجه أيضا؟