عيسى سيار
لقد كان يطلق على جمهورية جنوب إفريقيا دولة الفصل العنصري؛ حتى استطاعت إرادة الشعب في تلك الدولة مع نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي ومن خلال الزعيم المناضل نيلسون مانديلا الذي ضحى بسبعة وعشرين عاماً من حياته في المعتقل… أن يجعل شعب جنوب إفريقيا يسمو فوق جراحاته، ويتوحد البيض والسو د، المسيحيون والمسلمون والوثنيون الحضر والقبائل، في بوتقة واحدة من أجل أن يبنوا دولتهم الديمقراطية المدنية العصرية.
لا أعلم كم عرقاً في جنوب إفريقيا، ولا كم ديانة، ولا كم لغة، ربما تكون كثيرةً جدّاً، لكنهم قرّروا أن يتصالحوا ويتسامحوا ويتوحدوا من أجل مستقبل واعد ومشرق لبلدهم ولأبنائهم. وقد تجاوز الشعب الجنوب إفريقي والشعب الايرلندي الحكومات المستبدة الظالمة والحدود والأعراق والألوان والديانات من أجل انتصار القيم الإنسانية والعدالة والدولة المدنية.
إن ما مرّت به البحرين ما قبل 14 فبراير/ شباط 2011 من التمييز الطائفي والذي زادت وتيرته وحدته بعد ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، أصبح أمراً خطيراً وأمراً لا يمكن السكوت عنه، لأنه سيأخذ البحرين إلى المجهول، وستترتب عليه عواقب وخيمة وستستمر تلك العواقب أجيالاً وأجيالاً، إن لم يتم التصدي له وعلاجه في أسرع الآجال.
لقد ضرب الانشطار المذهبي في البحرين مناحي الحياة كافة في مقتل، وأصبح واضحاً وملموساً في المدارس، وفي التوظيف والعلاقات الوظيفية داخل بيئة العمل والعلاقات الاجتماعية بين المواطنين، وحتى بين الكتل داخل مجلس النواب. فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ نجد تجمعات الطلبة والمدرسين في المدارس تتم على أساس طائفي، والجمعيات السياسية تدخل الانتخابات بقوائم على خلفية مذهبية صرفة، والكتل البرلمانية تتشكل على خلفية مذهبية صرفة، وهكذا أصبحت الأمور تسير في البلد نحو المزيد من الفصل الطائفي!
تصوروا ونحن نعيش في دولة القانون والمؤسسات؛ أصبح التوظيف في الأجهزة الحكومية وفي الشركات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة يتم على أساس طائفي، حيث يبدأ الفرز من تسلم السيرة الذاتية، ثم في المقابلة حيث تجد الأسئلة التي تستوضح عن أصلك وفصلك ومكان سكنك وأبيك وجدك وعمك وخالك، للتأكد فقط من أنك تنتمي إلى هذه الطائفة وليست تلك!
تصوروا ونحن نعيش العهد الإصلاحي والمواطنة واللحمة الوطنية… ترى انتشاراً غريباً ومريباً لثقافة مقاطعة الآخر، مقاطعة الشركات والمطاعم والأسواق التجارية لأن صاحب هذه الشركة يتبع هذه الطائفة أو تلك.
تصوروا ونحن نعيش على أرض الوطن الذي التحم جسداً وروحاً في مطلع السبعينات ضد الأطماع الإيرانية، نرى الآن التمزق والتشرذم ينال مبلغه من جسد هذا الوطن؛ فماذا يعني تشكل اتحاد العمال الحر على أساس طائفي بحت؟ فهو لم يخرج من رحم نضال عمالي! وماذا يعني تلاعب وزارة التنمية الاجتماعية بأنظمة ولوائح جمعية الأطباء لكي تفوز إدارة مدجّنة وعلى أساس طائفي بحت، ويمثل وجهة نظر ومصالح الحكومة وليس الأطباء! وماذا يعني إلغاء انتخابات جمعية المحامين من قبل وزارة التنمية أيضاً، واستبدال مجلس الإدارة بمجلس مدجن هو الآخر يدار بالرموت كنترول عن بعد! وهل سنرى في مقبل الأيام اتحاداً نسائيّاً حرّاً وجمعية معلمين حرة وجمعية بطيخ حرة… إلخ؟
كفاكم تشرذماً، وكفاكم غلوّاً. كفاكم قبولاً بالطائفية كواقع، وكفاكم تلاعباً بمصالح الشعب. كفاكم طاعةً عمياء لمن يسمون رجال دين وإعلاميين وقادة سياسيين ونواباً… فهؤلاء جميعاً لهم أجندات خاصة تملى عليهم من أطراف أصبحت معروفة للقاصي والداني، ويقبضون بالطبع ثمن أفعالهم المشينة، ولا يهمهم حتى لو احترقت البحرين، فهذا آخر ما يفكرون فيه! ونقول لهم إن احترقت البحرين، فإنكم أول من سيكتوي بنارها.
لقد كانت قضية جنوب إفريقيا وايرلندا الشمالية أكثر تعقيداً وخطورةً من أزمة البحرين، ففي تلك الدولتين استخدم الفرقاء السياسيون والمذهبيون السلاح والعنف. في تلك الدولتين من الأعراق واللغات والأديان ما يصعب حصره. في تلك الدولتين خصومة سياسية ومذهبية امتدت إلى عقود من الزمن. ولو قارنا ما في تلك الدولتين من تعقيدات بما هو في البحرين سنجد أن أزمتنا لا شيء يذكر أمام تعقيدات تلك الدولتين، ولكن في نهاية المطاف؛ قرّر شعب جنوب إفريقيا والشعب الايرلندي، وبإرادة وطنية، الركون إلى التفاوض والحوار، لأن الشعب، وليس حكومتا البلدين، وصل إلى قناعه تامة بأن الحل الأمني واستخدام السلاح، لن يؤدي إلى إخراج بلديهما من مشاكلها، وسوف لن يكون هناك منتصر ومهزوم، ولذلك قرّرا طي صفحة الماضي بكل آلامها وجراحاتها وتصالحا وتسامحا وعالجا جراحاتهم.
أين الشعب البحريني الأبي من الدروس المستفادة مما حصل في جنوب إفريقيا وايرلندا؟ «ضع عقلك في راسك تعرف خلاصك». اعرف صديقك من عدوك. استفد من تجارب الشعوب الأخرى في مداواة جراحها ولا تدعو من يلعب بك ويغنّي على وتر الطائفية لينفذ أجنداته الخبيثة، فهو أول المستفيدين من هذا الانشقاق. التقوا على حب الوطن. اتفقوا على الأصول واتركوا الفروع. لا تدخلوا في محاصصات طائفية وتفاصيل شيطانية من شأنها أن تذهب بريحكم وتجعلكم تابعين ومغيَّبين ومغلوباً على أمركم إلى يوم الدين. اعملوا على بناء الثقة التي غيّبتها خفافيش الظلام. تذكروا تاريخنا النضالي المجيد المشترك. ارفعوا رؤوسكم واكشفوا الفاسدين والمرتشين والمأجورين والمتاجرين بالوطن وأهله، ومن يقبض ثمن تكريس الطائفية وشق الصف الوطني وضرب اللحمة الوطنية… فمن يرفع الشراع؟