محمود القصاب
مهما تعددت الرؤى واختلفت المواقف وتباينت التقديرات للنهايات المتوقعة للثورات الشعبية والانتفاضات الجماهيرية التي اجتاحت العديد من الأقطار العربية، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً غير خاضع للنقاش وهو أن هذه الثورات قد شكلت نقطة تحوّل مهمة غيرت الوجه السياسي والاجتماعي في عموم المنطقة، لماذا؟… أولاً: لأنها قد شرعت الكثير من الأبواب الموصدة التي كان يحرم على المواطنين الدخول منها. ثانياً: أنها قد فتحت بعض الصناديق المغلقة وأخرجت بعض محتوياتها السرية والممنوعة. وثالثاً: أنها قد أنهت أسطورة أو تقديس تلك القضايا التي تشبه المحرمات وغير القابلة للتداول والنقاش. رابعاً: قد أسقطت تلك الهالة المصطنعة عن بعض الرموز أو الشخوص بحكم انتهاء صلاحياتها السياسية، وسقطت معها كل «الخطوط الحمراء» و «الخطوط الصفراء» ولم يعد هناك أحد فوق النقد، ولم يعد هناك من يخاف أو يخشى ممارسة هذه القيمة أو الفضيلة.
إلى جانب هذه المسائل الفرعية والمهمة التي أفرزتها الثورات العربية، هناك قضية رئيسية تمثل في تصورنا أهم تداعيات هذه الثورات أو التحركات الشعبية قد برزت بصورة واضحة وجلية في كل الدول العربية التي هزتها هذه الثورات ونعني بها قضية «الدولة» برمتها والموقف منها، وما فرضته من إعادة تقييم لدورها في أعقاب هذه الأحداث والتطورات.
الدولة – أي دولة – مهمتها عادة تنحصر في حماية المواطن وتحقيق الأمن والاستقرار للوطن، والعمل على جلب أو إنجاز هدف التنمية الشاملة لمصلحة كل المواطنين، دون تفريق أو تهميش لأحد منهم لأسباب سياسية أو دينية أو مذهبية، باعتبار أن هذه الدولة تمثلهم جميعاً، طالما كانت دولة قانون ومؤسسات ومواطنة، بخلاف ما يحدث عندما تكون هذه الدولة قائمة على «عصبيات» ما قبل الدولة مثل القبلية أو الطائفية أو العائلية هنا يغيب مفهوم الشعب، والمواطنون يصبحون مجرد «رعايا» يتم تسخيرهم لخدمة (الدولة/السلطة) وليس العكس، وهذه إحدى صفات أو مميزات الدولة المأزومة، وهنا تتجلى إحدى علامات تآكل أو اختفاء البنية القانونية أو المؤسساتية في مثل هذه الدولة، وتتكشف أهم أعراض مرض «نقص» الشرعية الذي يطفح على جسدها ويطبعها بالضعف والهزال الدائمين.
في مثل هذه الدولة – كما هو شأن كل الدول العربية – هل يمكن الادعاء أن الثورات التي حصلت فيها ومازالت تداعياتها تتفاعل، قد جاءت من غير أسباب ودون سابق إنذار، أو أنها أتت من فراغ؟ حتى وإن بدت فجائية أو عفوية عند لحظة انطلاقها، اليوم باتت الصورة أكثر وضوحاً. فخلف هذه التحركات الشعبية – على مختلف مستوياتها ومسمياتها – عقود من القهر والحرمان والمعاناة السياسية والاجتماعية التي كان يئنُّ تحت وطأتها المواطنون العرب، وكذلك تردي أحوالهم الاقتصادية والمعاشية وفقدان كل أمل لهم في التغيير والإصلاح وفوق هذا وذاك، هناك سلوك البطش والقمع الذي اختارته هذه الدول كطريق وحيد لكسر إرادة المواطن وسلب حريته وكرامته وحرمانه من أبسط حقوق المواطنة ومن شعور بإنسانيته، وهو ما أجبر هؤلاء المواطنين على اختيار طريق الثورة والحراك الشعبي لتغيير هذا الواقع المفروض عليهم.
هنا نحن في الحقيقة نستخدم وصف (الدولة) مجازاً لأنها في واقع الأمر هي دولة غائبة لا حضور لها، أو أنها مجرد حالة افتراضية، أو صورية في أحسن أحوالها، بمعنى أن حضور الدولة هنا ناقص ومتعثر بل مشوه نظراً لغلبة الوظيفة السلطوية على هذه الدولة، واتساع الهوة بين الحكام والمحكومين، فالسلطة هي المركز أو المحور الذي تدور من حوله ومن أجله كل المقومات والمكونات الأخرى. لذلك هي لا تتردد في وضع يدها على كل الفضاءات أو المجالات العامة، وأن تصبح هي «المكان» و«الزمان» و«التاريخ» وهي من يكتب هذا التاريخ ويرويه أيضاً. مع كل ما في هذه الرواية من مغالطات وظلم. وهل ينتظر أي شعب تكون دولته أو سلطته بهذه المواصفات غير التقهقر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي؟
هنا في مثل هذه الدولة (السلطوية) يتحول جهاز الأمن إلى جهاز للقمع والسيطرة والمراقبة وبث الفرقة والانقسام بين مكونات المجتمع.
في مثل هذه الدولة (السلطوية) يجري التحكم في كل المجالات من التعليم إلى الإعلام إلى الثقافة والفن والرياضة، باختصار لا يبقى مجال عام أو خاص لم يتم السيطرة عليه أو التحكم فيه وإخضاعه للمراقبة من جانب هذه الدول.
وهنا أيضاً في مثل هذه الدولة (السلطوية) أيضاً يقترن عادة الفساد بالاستبداد، ويقود أحدهما للآخر، فالفساد هنا ليس دوره أو وظيفته توسيع القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي القائم وتوسيع الفئات المستفيدة والمتواطئة معه. كما إنه ليس مجرد نهب لموارد الدولة وثرواتها الطبيعية أو الثراء غير المشروع من قبل المتنفذين في السلطة، كما أن الفساد ليس مجرد تنامي بعض الظواهر الاجتماعية الخطيرة مثل المحسوبية والواسطة والرشوة، إنه فوق كل هذا هدم لبنية المجتمع وضرب كل الأسس القانونية والقيم الخلقية فيه، من خلال التلاعب بالقانون والقضاء والتشريع الذي يبرر الاستبداد ويعيد إنتاجه، وهذا ما يقوّي إصرار هذه الدولة على رفض أية مطالبات مشروعة من أجل الحرية والعدالة، الأمر الذي يؤكد الارتباط الوثيق بين الفساد والاستبداد، وهي الحقيقة التي شخّصها الكواكبي قبل ما يزيد على القرن في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» عندما اعتبر أن الفساد السياسي هو أصل الداء، وأن أي إصلاح قبل الإصلاح السياسي هو مجرد لغو لا قيمة له.
ما نريد أن نخلص إليه هو أن الثورات والانتفاضات الشعبية في الدول العربية قاطبة، هي معنية أساساً بإعادة الاعتبار إلى مكانة ودور الدولة «وسد النقص فيها»، أي جعلها دولة مؤسسات وقانون، لأن مثل هذه الدولة هي حجر الأساس وقاعدة انطلاق أي مجتمع نحو آفاق التطور والإصلاح الديمقراطي، لذلك فإن هدف كل ثورة شعبية وكل حراك شعبي كما يعلمنا التاريخ والحاضر، هو إعادة تصحيح العلاقة بين الدولة والمواطن، من خلال «عقد اجتماعي» جديد، يقوم على ركيزتين أساسيتين. الأولى: إصلاح الدولة لتكون دولة مدنية عصرية ديمقراطية تسود فيها العدالة وقيم المساواة وحقوق الإنسان. والثانية: صياغة نظام سياسي جديد ليكون نظاماً ديمقراطياً وتعددياً.
باختصار، إنه عقد اجتماعي يعالج نقص الدولة ونقص المواطنة على حد سواء، لأن هذا الأخير هو نتاج للأول بصورة حتمية.