د / يوسف مكي
عالم الأقوياء ليس فيه متَّسع للضعفاء، ذلك قانون حكم مختلف أشكال العلاقات بين الدول. فالكبار وحدهم يفرضون شروطهم، ويسنّون القوانين والتشريعات، ويشكّلون المؤسسات الدولية على مقاساتهم.
وقانون الدورة التاريخية، يقول بأفول إمبراطوريات وصعود أخرى، في دورات لا نهائية. والانتقال لا يتم إلا من خلال تحولات كبرى، تضم منتصرين ومهزومين، وفيها تتأسس أنظمة دولية جديدة.
وفي هذا المنعطف تشتعل الحرائق في كل مكان من أرضنا العربية، وينشغل العرب في حروب داخلية طاحنة، بينما تعمل القوى الكبرى على إعادة ترتيب أولوياتها، في معادلة توازنات القوة.
والصراع بين عمالقة القوة، كما كان منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر في جزء رئيسي منه، هو على منطقتنا.
كان ذلك، أثناء مقارعة حركة النهضة العربية للاستبداد العثماني، وتحديداً عندما تكالبت القوى الفتية الكبرى، للانقضاض على الرجل المريض في الأستانة.
واستمر ذلك في حلقات متصلة، أثناء الحرب الكونية الأولى، وخلال مفاوضات المنتصرين، بهدف اقتسام غنائم الحرب. وتواصلت فيما بين الحربين الكونيتين، وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت منطقتنا مسرحاً من مسارح الحرب الرئيسية. وكان الصراع على المنطقة العربية، من أبرز ملامح الحرب الباردة، بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي.
وفي كل محطة من محطات الانتقال في النظام الدولي، يتم قضم المزيد من حقوقنا. وبدلاً من العمل من أجل أن يكون لنا مكان لائق بنا تحت الشمس، فإننا في أحسن الأحوال نغدو من ملحقات هذا الفريق أو ذاك.
تشكل النظام العربي الرسمي، ومعظم الأقطار العربية لم تنجز استقلالها بعد، رغم أن تلك المرحلة شهدت صعوداً كبيراً لحركات التحرر الوطني، وجاء نضال جبهة التحرير الوطني الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، تتويجاً لانتصارات السويس، بما يجعل العرب يتفاءلون بأن قيام أمة عربية واحدة أصبح قاب قوسين أو أدنى.
بعد الحرب العالمية الثانية ساد نظام دولي تربع على قمته الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وبرزت كتلة رأسمالية وأخرى اشتراكية.
ودفعت النتائج المريرة للحرب الكونية، لبروز طرحٍ ينأى بنفسه عن الالتحاق بأي من الكتلتين، لمصلحة تأسيس كتلة عالمية ثالثة، توافقت عليها أقطاب من زعماء العالم الثالث في مؤتمر باندونغ في إندونيسيا، هي حركة عدم الانحياز.
ولم يكن نشوء الحركة، موقفاً انتهازياً وسطاً، بل رفض إيجابي، لأن تكون تروساً في الصراع بين عمالقة القوة، وإصراراً على أن تكون شعوب العالم الثالث، فاعلة ومؤثرة في صناعة السياسة الدولية.
أنجزت بلدان العالم الثالث الاستقلال الوطني، في مطالع السبعينات، لكن استقلالها حمل معه معاهدات وأحلافاً ألحقت المستعمرات السابقة، سياسياً واقتصادياً بأسيادها السابقين. وسرعان ما التحقت هذه البلدان بحركة عدم الانحياز، بما أسهم في تحويلها إلى مجرد منبر سياسي، من دون تأثير في مجرى السياسة الدولية.
أما عمالقة القوة، فقد بقيت أحلافهم العسكرية وتكتلاتهم الاقتصادية تعمل من دون كلل، ولم تتغير الصورة إلا بعد منتصف الثمانينات، حين تكشف الخلل الفاضح في معادلة القوة الاقتصادية بين القطبين الدوليين، لمصلحة المعسكر الغربي، بما أدت مآلاته إلى سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، والتحاق معظم دول أوروبا الشرقية بكتلة الناتو، وسقوط حلف وارسو.
أما النظام العربي الرسمي، فبقي في سبات طويل، وعلى هامش المتغيرات الدولية، في بقعة من أهم المواقع، الاستراتيجية العالمية، من حيث معابرها وممراتها، أو من حيث ما تختزنه أرضها من ثروات.
عاد الدب القطبي بقوة إلى واجهة الأحداث، ومع عودته تبرز خارطة تكتلات دولية جديدة. وكان آخر تجسيد للقوة الروسية الصاعدة، قد برز في اجتماع جموعة العشرين، التي أراد لها قيصر روسيا الجديد بوتين أن تعقد في سان بطرسبورغ، في إيماءة واضحة لا تخطئها القراءة الواعية لتاريخ هذه المدينة.
عودة الدب القطبي بقوة، في صناعة السياسة الدولية، ليست مجرد صعود لدولة تملك من الإرث العسكري والسياسي والاقتصادي والحضاري ما يمكّنها للتنافس مع الغرب، ولكنها تأتي مصحوبة بتكتلات أخرى، قوية تسهم في منحها ثقلاً إضافياً ضخماً، تجسده قيادتها لمنظومتين دوليتين كبيرتين.
الأولى منظمة البريكس، وتضم إضافة إلى روسيا، الصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
ومنظمة شنغهاي للتعاون، وتضم إضافة إلى روسيا، الصين وكازاخستان وقرغيزيا وأوزبكستان وطاجيكستان، وتتمتع كل من الهند وإيران وباكستان وأفغانستان ومنغولياً بالعضوية المراقبة.
والمعنى واضح ولا يحتاج إلى تفسير، فأكثر من مليارين من البشر هم ضمن دائرة التجمعين آنفي الذكر.
ولهذا يغدو من الصعوبة، أن تتجاهل الإدارة الأميركية وحلفاؤها مبادرات روسيا السياسية. ولعل أهم هذه المبادرات، مبادرة مؤتمر جنيف لحل الأزمة السورية المستعصية، والمبادرة المتعلقة بنزع أو تسليم السلاح الكيماوي السوري، كبديل عن المواجهة العسكرية، التي جرى التصديق عليها حديثاً بقرار من مجلس الأمن الدولي.
في الوطن العربي، بدا مشهد ما عُرف بالربيع العربي حزيناً وقاتماً، فلقد شرّد أكثر من عشرين مليون من البشر من ديارهم، في العراق وليبيا واليمن وسورية والسودان، والنظام العربي الرسمي، يؤكد عجزه كل يوم. فلا يعود هناك حديث عن ميثاق جامعة الدول العربية، ولا عن الأمن القومي العربي المستباح، ولا معاهدة الدفاع العربي المشترك.
أوَلم يحن الوقت بعد لأن نوجد تكتلاتنا الخاصة بنا، التي تدافع عن أمننا ومصالحنا ومستقبلنا؟ لا خيار أمامنا سوى التماهي مع روح العصر، ووعي طبيعة المرحلة وسياقاتها الدولية، التي تؤكد أن المستقبل يكمن في التكتلات الاقتصادية والسياسية والعسكرية الكبرى، وإعادة الاعتبار للمؤسسات المعبرة عن الانتماء إلى الأمة، أو القبول بأن نكون على هامش التاريخ.