القضية ليست جديدة كما نعلم. هي مثارة منذ سنوات طويلة. نعني قضية نزيف العقول والكفاءات العربية وهجرتها إلى الخارج. وقد سبق لي ان ناقشتها في مقالات سابقة.
لكن القضية تستحق ان تظل مثارة باستمرار. فالأمر يتعلق بواحدة من اخطر الظواهر في عالمنا العربي.
ومناسبة اثارة القضية اليوم، حوارمهم للغاية نشر منذ يومين. الحوار اجراه موقع سويسري على الانترنت حول "العقول العربية المهاجرة" مع الدكتور عبدالسلام علي نوير، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود.
أهم ما يلفت النظر في الحوار هو ما يقدمه الدكتور عبدالسلام من ارقام وحقائق عن الظاهرة. ومع اننا نعلم بشكل عام ان الظاهرة لها ابعاد خطيرة، الا اننا حين نتأمل هذه الأرقام والحقائق مجتمعة سنجدها مفزعة بكل معنى الكلمة.
ولنتأمل بعض هذه الحقائق والارقام.
بحسب دراسات للجامعة العربية، فإن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون الى بلادهم، ولدرجة ان الأطباء العرب يمثلون 34% من اجمالي عدد الأطباء في بريطانيا. كما تشير هذه الدراسات الى ان 20% من خريجي الجامعات العربية يهاجرون الى الخارج. وحوالي 60% ممن درسوا في الولايات المتحدة خلال الثلاثين عاما الاخيرة لم يعودوا الى بلادهم، و50% ممن درسوا في فرنسا لم يعودوا أيضا الى بلادهم.
وبحسب هذه الدراسات، فان الوطن العربي يساهم بنحو 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية ككل. ونحو 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون الى أوروبا والولايات المتحدة وكندا. و75% من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة الى ثلاثة دول تحديدا هي بريطانيا وامريكا وكندا.
أما عن اجمالي اعداد الكفاءات والعقول العربية المهاجرة، فان اكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا والفنيين المهرة مهاجرون ويعملون في الدول المتقدمة. وهذا الرقم بحسب احصاءات عام .2002
ولنا ان نتخيل أي خسارة تمنى بها الدول العربية من جراء هذا النزيف الرهيب للعقول والكفاءات بهذه الاعداد المذهلة. وبحسب الدراسات، فقد بلغت خسائر الدول العربية من جراء هجرة العقول في السبعينيات نحو 11 مليار دولار. ويقدر الخبراء اجمالي الخسائر نتيجة هذه الظاهرة اليوم بأكثر من 200 مليار دولار.
والقضية بالطبع ليست خسارة أموال فقط، لكنها في المقام الاول والاخير خسارة حضارية فادحة وعلى كل المستويات.
يقول الدكتور عبدالسلام نوير هنا: هجرة العقول الى الخارج تسببت ولا تزال في تخلف حقول المعرفة في العالم العربي واضعاف الفكر العلمي والعقلاني، وعجزه عن مجاراة الانتاج العلمي العالمي في أي ميدان من الميادين. لكن الخسارة الكبرى تتبدى في الأثر السلبي الذي تتركه هذه الهجرة على مستوى التقدم والتطور المطلوب في المجتمعات العربية في الميادين العلمية والفكرية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية وهو ما يؤثر سلبا على مشاريع التنمية والإصلاحات مما يزيد التخلف السائد أصلا في هذه المجتمعات، وذلك بعدما بات مقياس التقدم متصلا اتصالا وثيقا بمدى تقدم المعرفة وانتاجها.
وتتجلى الخطورة اكثر في ان عددا من هؤلاء يعملون في اهم التخصصات الاستراتيجية مثل الطب النووي والجراحات الدقيقة والهندسة الالكترونية والميكروالكترونية والعلاج بالاشعاع والهندسة النووية وعلوم الليزر وتكنولوجيا الانسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والهندسة الوراثية.
إذن، هذه الظاهرة الخطيرة، بتأثيراتها المدمرة على دولنا ومجتمعاتنا العربية في كل الميادين تستحق ان تظل مطروحة دوما وبإلحاح للنقاش والتنبيه العام.
ورغم كل ما كتب عن الظاهرة، سنظل دوما بحاجة إلى التنبيه الى أسبابها، والى سبل معالجتها.
للحديث بقية.
© جمعية التجمع القومي الديمقراطي 2023. Design and developed by Hami Multimedia.