د. يوسف مكي
لم يشفع للفلسطينيين، احتفاؤهم بعيد الأضحى المبارك، فقد واصل الصهاينة استفزازاتهم، للمدنيين الآمنين، وسط هبة شعبية عارمة، هدفها التصدي لعمليات جنود الاحتلال، الهادفة لتهويد المدينة المقدسة. واقع الحال، أن هذه المواجهات، التي اتخذت أشكالاً تصاعدية هذه الأيام، لم تكن وليدة لحظة غضب في حر فلسطيني، بل كانت فعلاً نضالياً مستمراً، منذ بدأ الاحتلال الصهيوني، لمدينة القدس، في يونيو/حزيران عام 1967.
فمنذ الاحتلال، لم يخف العدو الصهيوني نواياه، تجاه المدينة المقدسة، فبعد أقل من مرور أسبوع على احتلال القدس الشرقية، وهزيمة دول المواجهة، أعلن موشي دايان وزير الحرب «الإسرائيلي»، أن على قادة مصر وسوريا والأردن، الذين احتل الكيان الغاصب مساحات واسعة من أقطارهم، الدخول في مفاوضات مباشرة معه، من أجل التوصل إلى اعتراف ومصالحة معه، وإنهاء حالة الحرب بين العرب والكيان الغاصب، كشرط لاسترجاع أراضيهم التي وقعت تحت الاحتلال. أما في ما يتعلق بمدينة القدس، فلن يتم التخلي عنها، وستكون العاصمة الأبدية للصهاينة.
ولم يكن تصريح موشي دايان سوى نقطة البداية، في التنكر لعروبة القدس الشريف، فقد توالت تصريحات القادة الصهاينة، مؤكدة أن مدينة القدس، هي العاصمة الأبدية لليهود.
وقد تزامنت تلك التصريحات مع عملية تهويد شاملة للمدينة المقدسة، هدفت إلى تزوير معالم المدينة، وتغيير هويتها العربية والإسلامية. وفي حينه ذكر زعماء في اليمين «الإسرائيلي»، في عدد من المناسبات، أن لا معنى لقيام الدولة «الإسرائيلية»، ما لم تدمج القدس بها، وتصبح مركزها الرئيسي.
وخلال المفاوضات التي امتدت قرابة خمسة عقود، منذ حرب يونيو، بين منظمة التحرير الفلسطينية، والصهاينة، بهدف تحقيق تسوية للصراع، أصر الصهاينة، على عدم مناقشة وضع القدس، ووضعوا العراقيل، للحيلولة دون وضعها على أجندات تلك المفاوضات. ولم تفلح كل المبادرات التي طرحت لتسوية الصراع، في تغيير موقف الكيان الغاصب، من القدس الشريف.
ولم يحرك المجتمع الدولي ساكناً أمام العنجهية والغطرسة الصهيونية، مع أن السلوك التوسعي العدواني للكيان، شكل تنكراً وخرقاً جلياً، لقرارات مجلس الأمن الدولي، ولميثاق هيئة الأمم المتحدة، التي اعتبرت القدس الشرقية، مدينة تحت الاحتلال، ورفضت أي تغيير في معالمها وهويتها الفلسطينية.
وعندما جرت المفاوضات بين الفلسطينيين والصهاينة التي انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية، والكيان الصهيوني عام 1993م، فإن مطالب المفاوض الفلسطيني، بجعل مدينة القدس جزءاً من الأراضي التي يجري التفاوض عليها باءت بالفشل، بسبب التعنت ««الإسرائيلي»». وفي النهاية جرى الاتفاق بين المتفاوضين، على إرجاء موضوعها إلى مفاوضات الحل النهائي، التي ستجري بين السلطة الفلسطينية، والكيان الغاصب، بعد خمس سنوات من توقيع الاتفاق، لكن تلك المفاوضات لم تتحقق شيئاً حتى بعد مضي أكثر من اثنين وعشرين عاماً على توقيع اتفاقية أوسلو.
لقد عول الصهاينة على استثمار الوقت، من أجل وضع استراتيجيتهم في تهويد القدس، موضع التنفيذ. ولم يكن التسويف والمماطلة، والتسليم في بعض الأحيان للضغوط الدولية، فيما يتعلق ببناء المستوطنات بمدينة القدس، سوى تكتيكات مرحلية، لضمها للكيان الغاصب.
والنتيجة أن الصهاينة أكدوا بنهجهم التوسعي، أنهم يعتبرون ضم القدس لكيانهم، أمراً محسوماً، لا يمكن أن يكون موضوع مساومة، أو خضوع لأي اتفاق أو تفاهمات دولية.
وفق هذا السياق، فإن تغيير معالم المسجد الأقصى، صار مهمة جوهرية، لطمس هوية المدينة المقدسة وليعاد لخرافة الهيكل حضورها، على أنقاض المسجد، من دون وضع أي اعتبار للحقائق السياسية، أو القوانين الدولية.
لقد اتجه الكيان الصهيوني، منذ احتلال المدينة المقدسة، نحو تهويدها. فأعطى اليهود حق الدخول إلى المدينة، تحت ذريعة إقامة شعائرهم الدينية فيها. ثم بدأت حركة استيطانية، بزخم يتجه صعوداً، كلما تقادم الزمن. ولم يتردد في بناء المستوطنات. وليتبع ذلك، عمليات حفر مستمرة، تحت المسجد، بذريعة البحث عن الهيكل. وفي تزامن مع ذلك، شجع الشبان اليهود المتطرفين، على استفزاز الفلسطينيين، أثناء تأدية صلواتهم بالأقصى. وتم حرق المسجد، من قبلهم، وحملت المسؤولية لأسترالي يدعى مايكل دينيس روهن وصفته ب«المعتوه».
ولم يكتف الصهاينة بالعمل على تهويد المدينة المقدسة، وتغيير معالمها، وتزايد الهجرة اليهودية لها، وبناء المستوطنات، فوق التلال المحيطة بها، بل أقدمت على نفي أبنائها، «المقدسيون»، الذين عاشوا على هذه الأرض، جيلاً بعد جيل لآلاف السنين. ولأن هذا النفي هو الذي يحقق نبوءة غولدا مائير في أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
لقد مارس الصهاينة التهجير القسري والقتل ومصادرة الممتلكات والأموال، وهدم المنازل وتجريف الأراضي الزراعية، ومنع البناء، وتحويل العيش في القدس بالنسبة إلى الفلسطينيين إلى جحيم، والهدف هو دفع الفلسطينيين إلى الرحيل عن مدينتهم المقدسة.
ولم يترد المسؤولون الصهاينة، عن المشاركة المباشرة في هذه الخطط. لقد أشعل دخول شارون مع شلة من حراسه إلى المسجد الأقصى، في مطلع هذا القرن انتفاضة الأقصى. واليوم يطرح الصهاينة علنا، فكرة التداول بين اليهود والمسلمين. فيتم تحديد أيام معلومة للمسلمين، وأيام أخرى لليهود، في إطار خطة مرحلية، للتهويد النهائي للمدينة، وحرمان المسلمين، من أداء صلواتهم في أولى القبلتين، وثالث الحرمين.
حماية القدس، قضية عربية وإسلامية بامتياز، ولا تخص الفلسطينيين فقط. وليس مقبولاً التهاون بشأنها. والكيان الصهيوني سوف يواصل سياسته التوسعية والعدوانية، ما لم يواجه بردود قوية وحاسمة، دفاعاً عن المدينة المقدسة، وعن عروبة فلسطين.