إذا أجزنا لأنفسنا الاستعارة من توماس كون، فإن التقدم في العلوم والأفكار، لا يكون نتاج تراكم تاريخي تدرجي فقط، بل هو في الغالب حصيلة ثورات علمية، تدفع بنا للتخلي عن فرضيات سابقة، وتبني نماذج عمل جديدة، بما يسهم في الاقتراب من تحقيق الأهداف الكبرى للأمة في الوحدة والنهوض والتقدم.
ولأن التجربة والرصد والمشاهدة عناصر لازمة لأي منجز علمي، فلا مناص من الأخذ بها عند قراءتنا للخطاب القومي. وفي هذا السياق، تشير القراءة التاريخية للمشروع القومي إلى أنه بدأ بالتشكل منذ مطالع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بمعنى مضي ما يقرب من مائة وستين عاما، على انبثاقه. لا يبدو في الأفق الآن، بعد مضي حقب طويلة على التبشير بالمشروع القومي، أننا نقترب من تحقيق هذا الهدف. العكس صحيح تماما، فجل ما نطمح له في هذه اللحظة هو حماية الدولة الوطنية من التفتت. ذلك يطرح مسألة مراجعة الفكر القومي، وإعادة تقييمه، بصورة ملحة، أكثر من أي وقت مضى.
ولأن سمة العصر، أنه عصر تكتلات وتحالفات كبرى، وعصر انتصار القوميات أيضا. فلن يكون مقبولا أن تكون المراجعة هروبا إلى الخلف، بالتخلي عن فكرة الوحدة ذاتها. إن المراجعة النقدية، ينبغي أن تشكل خطوة متقدمة إلى الأمام، على طريق تعضيد مشاريع النهضة العربية، وليس التنكر لها.
أول ما يواجهنا عند مراجعة المشروع القومي، أنه مشروع مشرقي، انطلق من بلاد الشام. وكان الخطاب متأثر بتوترات اللحظة وتجاذباتها. لقد كان المشروع منذ بدايته مرتبكا، كونه مثل موقفا طبيعيا للرد على الاضطهاد العنصوري الطوراني، ومحاولات تغييب الهوية العربية وارتبط لاحقا بمواجهة الهجمة الكولونيالية، وتحقيق الاستقلال، والنضال ضد الأسواق الإمبريالية. وكان ذلك هو السياق الموضوعي الذي انبثقت من رحمه حركة التحرر العربية.
بثد تأثر المشروع بحدثين هامين، هما توقيع اتفاقية سايكس- بيكون وإعلان وعد بلفور، ومن خلال موقفه الغاضب لمقص التجزئة، استنبط موقفا عدائيا من الدولة القطرية في كل أنحاء الوطن العربي، مع أن هذه الدولة مثلت كيانا وطنيا راسخا، وقويا ساهم في حماية الهوية العربية، في بلدان كثيرة، كمصر والمغرب والجزائر وتونس وليبيا.
في غمرة انهماك القوميين، في المشرق العربي، بمواجهة نتائج الهجمة الفرنسية- البريطانية- الصهيونية، غيبت مشاريع نهضوية أخرى، وغلبت الانفعالية على الشعارات القومية، وغدت محكومة بقانون الفعل ورد الفعل، وليس بالإبداع والمبادرة.
إن مقاربة المشروعين: الأوروبي والعربي، تشي بأن الأول، كان نتاج صيرورة تاريخية، وجد حاضنة اجتماعية قادرة على النهوض به وتحويله إلى أمر واقع. وكان لنتائج الحرب العالمية الثانية، دورا كبيرا في تعضيده، والارتقاء به من مشروع أمم أوروبية، إلى شراكة في السوق، عبر عنها ﺒ"السوق الأوروبية المشتركة"، ثم إلى مواطنة مشتركة واتحاد أوروبي. شمل في مراحله الأولى الجزء الغربي من القارة، لتنضم إليه لاحقا بعد انتهاء الحرب الباردة بقية دول أوروبا. وقد حلق المشروع الأوروبي بجناحين، هما مشروع مارشال، الذي أسس قاعدة الانطلاق الاقتصادية، وحلف الناتو، الذي تحول إلى مؤسسة دفاع مشتركة. بمعنى آخر، وضعت نتائج الحرب الكونية الثانية، لبنات التأسيس، لانطلاق مشروع الوحدة الأوروبية، بينما وقفت نتائج الحربين الكونيتين، الأولى والثانية، بالضد من الحلم العربي في الحرية والانعتاق، وتحقيق الوحدة.
لم تسعف السياسات الدولية والتحولات التاريخية، مشروع الوحدة العربية، بل على النقيض من ذلك، جاءت الهجمة الإمبريالية، والهجرة الصهيونية، وضعف مقاومة الهياكل الاجتماعية العربية، لتصبح عناصر طاردة لهذا المشروع. في حين كانت تلك التحولات والسياسات التي ارتبطت بها، عناصر جاذبة لوحدة أوروبا.
يضاف إلى ذلك أن اليقظة العربية الأولى، بما هي مشروع للنهوض، جاءت بعد انقطاع طويل لحضور الأمة، إثر اجتياح التتار والمغول العاصمة العباسية بغداد ولمراكز الإشعاع العربية. وكان المؤمل أن تتجه مسيرة التنوير بالعصر الحديث، في خط بياني صاعد، حتى تتمكن من إحداث نقلات نوعية في الفكر والثقافة، إلا أنها لم يقدر لها مواصلة سيرها، ووئدت وهي لما تزل في المهد. فكانت النتيجة فشل مشروع النهضة، قبل أن يتمكن من تحقيق أهدافه. وقد أفصح هذا الفشل عن ذاته، في جملة من التراجعات، لعل أبرزها، سقوط تجربة محمد على باشا، وفشل ثورة عرابي، وتوقيع معاهدة 1936، مع الاستعمار البريطاني، في مصر، وعجز القيادات الوطنية عن التصدي للهجرة اليهودية إلى فلسطين، منذ مطالع العشرينيات من القرن المنصرم، مما رصف الطريق لإقامة الكيان الصهيوني، وتوقيع معاهدة بارتسموث، في العراق، وأيضا النظرة المزدرية للجماهير المعبر عنها ﺒ "أن العرب هم مجموعة من الأصفار".
لقد نقلت نتائج الحرب العالمية الأولى الصراع في الوطن العربي، إلى مواجهة مع استعمار فتي، لا يرى في حضارة الشعب المضطهد سوى الانحطاط والتأخر والهمجية، وهو فوق ذلك كله احتلال عسكري، متغطرس يمارس فيه أصغر جندي من قوى الاحتلال صلفه على أكبر كبير في الأمة. وهو احتلال ثقافي، يحاول المحتل عن طريقه قطع صلات الأمة بتاريخها وثقافتها وحضارتها وتراثها كله.
في عمرة الصراع مع الاستعمار، تبلورت الهوية العربية، في إطار تاريخي وموضوعي ارتبط بسيرورة تفكك النظام الاستعماري، بالاتفاق أو عن طريق القوة، وصعود نجم حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث. وكانت تلك من أبرز تحولات القرن العشرين.
كان الإيقاع السياسي الذي يموج به الشارع العربي، مفعما بالأماني بقيام أمة عربية واحدة. وكان الأساس النظري لفكرة الوحدة قد استمد مشروعيته من الإيمان بأن المجموعات البشرية التي عاشت على البقعة الجغرافية الممتدة من الخليج العربي شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا، قد جمعها إرث حضاري وتاريخي وثقافي، بل ونضال ومصير مشتركان. وأنها بما يربطها من وحدة لغوية وجغرافية واقتصادية، فإن قدرها الانضواء في دولة عربية موحدة، تجعل من رفضها للاستعمار وربيبته "إسرائيل"، رفضا إيجابيا وغير منفعل، أدواته ومقوماته عمق الأمة، حين تضع ثرواتها وإمكاناتها ومواردها مجتمعة في خدمة هذا الرفض، بما يضمن تحقيق الحرية والتقدم والتطور.
كما انطلقت من التسليم بأن الحرية التي يسعى إلى تحقيقها كل قطر عربي على حدة، تصطدم بمعوقات ومآزق تجعل من الحديث عنها طنين، لا تربطه بالواقع أية صلة، مادامت السيادة الاقتصادية في يد السيد المستعمر. فالحرية بالمعنى العميق والشامل، هي التي تبلغها الأمة من خلال هيمنتها على مقدراتها، وبنائها لقدراتها الذاتية.
وكان تنامي التأييد لفكرة العدل الاجتماعي لدى قطاع واسع من المثقفين، فيما بين الحربين العالميتين، قد منح زخما جديدا لفكرة الوحدة العربية، حين ربطها بموضوع التنمية الاجتماعية والاقتصادية، التي لا يمكن أن تتحقق في ظل ضعف للهياكل الاجتماعية، والتركيبة العشائرية وشبه الإقطاعية السائدة بالوطن العربي، إلا عبر تخطيط اقتصادي، يلتزم بتنفيذ الأولويات من المشاريع التي تستجيب للحاجات الأساسية للأمة. وذلك يعني في أبسط أبجدياته، رفضا قاطعا لأن تكون التنمية في الوطن العربي، حاصل فوضى ومضاربات الحرية الاقتصادية، بل من خلال سيطرة الدولة على موارد البلاد، وهيمنتها على وسائل الإنتاج، وبالتوزيع العادل للدخل، من خلال زيادة الضرائب وتوفير الخدمات الاجتماعية. إن ذلك، هو السبيل لتحقيق تنمية اقتصادية بأبعاد كبيرة، بما تتطلبه من رؤوس أموال كبيرة، وقدرات بشرية هائلة، مواد خام وموارد وأسواق واسعة، لا يمكن أن يضطلع بها أي قطر عربي على حدة، وإنما تتحقق عن طريق تكامل اقتصادي عربي، بين مجموعات تتجانس، أو على الأقل تتقارب، في أسس نظمها السياسية والاجتماعية. وتصبح قادرة من خلال دولة الوحدة، على إحداث تغييرات أساسية وجذرية في البنى الاقتصادية.
هذه المقدمات النظرية سادت بقوة في الواقع العربي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى نكسة الخامس من حزيران عام 1967، التي شكلت انتقالا رئيسيا في الفكر والممارسة، العربيين. لقد أفرزت هزيمة حزيران مرحلة جديدة اتسمت بجلد الذات، وتراجع الأفكار التي سادت في حقبتي الخمسينيات والستينيات، ولكنها لم ينتج عنها مراجعة نقدية حقيقية، للخطاب القومي، واتسمت هي الأخرى، كما هو الحال مع المرحلة الرومانسية، بالانفعالية، وغياب الرؤية. وقد آن لنا أن نعيد الاعتبار للخطاب القومي، ليس باستنساخه، ولكن بتجديده. وذلك ما سوف تكون لنا معه وقفات في أحاديث قادمة.