|
د/ يوسف مكي
منذ أكثر من عقد من الزمن، صار مألوفا ألا تخلو أي نشرة إخبارية عربية من الإشارة إلى عمل إرهابي، حدث في هذا البلد العربي أو ذاك . وفي الفترة التي أعقبت ما أصبح متعارفاً عليه بالربيع العربي، شهدت البلدان التي طالها هذا الربيع ، محاولات لتفكيك كياناتها الوطنية، وتزامن ذلك مع تصعيد خطير في عمليات التخريب . ويبدو أن ما شهدته الأسابيع الأخيرة، هو الأكثر عنفا منذ عدة سنوات، من حيث حصده للأرواح وتدمير الممتلكات . وقد شملت أعمال الإرهاب مصر وتونس واليمن والعراق وسوريا . وتسببت في مصرع عدد كبير من المدنيين، الذين شاء حظهم العاثر، أن يتواجدوا في الأماكن التي استهدفها الإرهاب .
تصاعد هذه الظاهرة، واستمرارها في منطقتنا، والعالم بأسره، يستدعي صياغة مشروع استراتيجي قومي وشامل للتصدي له . شامل بمعنى استيعابه للأسباب التي أدت لسيادة هذا النمط من السلوك المدمر، والقوى المطلوب زجها في المواجهة الكبرى لهذه الظاهرة، مواجهة لا تقتصر على خندق واحد، وتدع الخنادق الأخرى مكشوفة من دون حراسة . ومع التسليم بأن الحلول الأمنية، هي أمر لا مفر منه، لكنها لن تتمكن بمفردها، من إضعاف قوى التطرف، وشل قدرتها على التخريب، ولا تكفي لوحدها لسبر غور المشكلة، واقتلاعها من جذورها .
المشروع القومي لمواجهة الإرهاب، ينبغي ألا يقتصر على النخب الفكرية، بل يزج بطاقات الشعب كله في المواجهة . وينبغي أن يكون اتجاهها من الأسفل إلى الأعلى، فيتم التصدي لمرتكزات الإرهاب الفكرية والثقافية . وضمنها ضروب النشاط الاجتماعي السلبي الذي يمارس في مختلف الميادين . فالمرتكزات الثقافية، ليست دائما طافية على السطح، بحيث يسهل التعامل معها، ولكن الخطورة هي في ما هو كامن، منتظراً فرصته للظهور، عندما تتيح له الظروف ذلك .
الإرهاب عمل تآمري، صفته السرية، والأوامر تصل من القمة، من أمراء الحرب إلى القاعدة، جيل التائهين والمضللين، وهي غير خاضعة للسؤال أو للمناقشة، وذلك ما يجعل المواجهة مع الإرهاب عملية صعبة . وما يجعل الالتزام بفكر الإرهاب مهمة سهلة، هو وجوده في مجتمعات منغلقة، تجرم التنوع واحترام الرأي الآخر . إن فكر الإرهاب يتطلب خضوعاً كاملاً، وتغييباً للعقل، وجموداً في تفسير النصوص، واتهاماً لمن يؤمن بالحوار بالهرطقة إن لم يكن بالخيانة، وتقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر .
وعندما يتعلق الأمر بموضوع الحوار، فإن قوى التطرف تقف على الجادة الأخرى منه ولا تقبل به، ولذلك فلا جدوى من تبني الحوار معها . فالحوار يتم أساسا بين أطراف تقبل الاختلاف، ودلالته المعرفية هي إمكانية الاستفادة المتبادلة من خبرات وآراء المتحاورين . ويعني منهجيا، استحالة استحواذ فرد أو فئة سياسية أو اجتماعية على مجمل القول، من دون إتاحة الفرصة للإسهامات الفكرية والآراء الأخرى . إن الحوار في أساسه تسليم بنسبية الحقائق وإمكانية تغيرها، بما يسهم في إثراء المعرفة بحاجات المجتمع وطرق نموه وتطوره . . إنه بمعنى آخر، عمل يهدف إلى تكامل الخبرات، بين مكونات المجتمع، ويؤهل لمزيد من التبلور والنضج والانفتاح على المستجدات .
لقد أكدت تجربة المنطقة العربية التي عانت من الإرهاب، في العشرين سنة التي مضت، أنه ليس له وطن أو عرق أو جنسية أو انتماء اجتماعي، وأنه عابر للقارات والأوطان . فالتفجيرات شملت العالم الإسلامي من جاكرتا إلى طنجة، وعمت عمليات التفجير معظم زوايا الكرة الأرضية، إلا أن معظمها حدث في دار الإسلام . العنصر الوحيد الجامع لهذه المجموعات الإرهابية، هو اتفاقها على تكفير المجتمع، واعتبار أنها في هجرة من دار الكفر، والحديث عن خلافة إسلامية .
منطقتنا العربية حافلة بمختلف صنوف الاحتقان، ومختلف أنواع الكبت واليأس . وهناك ارتباط وجداني عميق وعلاقة قوية لا تنفصل بين دول الجوار العربي، في فلسطين واليمن والعراق ولبنان وسوريا، ومع دول المغرب العربي . وليس من جدل في أن كثيرا من الظلم والجور الذي لحق بالقضايا العربية، والتحيز غير العادل من قبل الغرب لصالح “إسرائيل”، واحتلال العراق وحملات التهديد المستمرة بحق عدد من البلدان العربية، ألقى بظلاله الثقيلة على الأوضاع العربية . كما أن فشل خطط التنمية وعجزها عن استيعاب الملايين من الشباب، خلق بيئة ملائمة لاستقطابهم من قبل التكفيريين .
لقد ركزت معظم القراءات التي حاولت دراسة ظاهرة الإرهاب، على النهج التكفيري فقط، وتناست قضايا كثيرة لا تقل أهمية . إن نهج الإقصاء، ليس فقط حاصل جمود في تفسير النص، واحتكام إلى الخرافة وتسفيه للعلم فحسب، بل هو أيضاً حاصل بنية اجتماعية هشة، تسببت بها عوامل عديدة، ليس أقلها التدخلات الخارجية .
في مواجهة فكر الإرهاب، لا بد من موازنة ثقافية دقيقة تلغي الاغتراب في المكان والزمان، فلا تغوص بعيداً في أعماق الزمن طلباً للأمان، ولا يتيه بعيداً عن مواطئ أقدامها، ومحط أفئدتها . الأوطان هي الحاضنة للجميع، والدفاع عنها وعن ثوابتها يأتي فوق كل الاعتبارات . وعندها يهزم التطرف، وتبدل ثقافة بثقافة، ونهج بنهج، حيث تحل ثقافة التسامح بديلاً عن ثقافة التكفير والضيق بالرأي الآخر .
في مواجهة التطرف والإرهاب، نصبح إزاء مشروعين، تغليب السيف على القلم، وسد أبواب الاجتهاد والفكر، أو أن تغليب القلم على السيف وفتح النوافذ والأبواب للهواء النقي . مواجهة الإرهاب ينبغي أن تكون حاسمة، والانتصار فيها يتم بتراجع السيف لصالح القلم، فيهزم فكر الانغلاق، وتفتح الآفاق للعطاء والإبداع .
لا بد من ولوج عصر تنوير جديد، تشارك فيه القوى الواعية والمبدعة بمجتمعاتنا العربية . فيمارس الأديب والكاتب والفنان التشكيلي، والأستاذ في جامعته ومدرسته، والعامل في مصنعه، والفلاح في حقله، كل من موقعه في عملية النهوض والبناء . ولا بد من بناء ثقافي جديد، وتجريم لإشاعة الكراهية، والعمل على تعميق روح التسامح والاختلاف، فذلك وحده الذي يخلق البيئة الملائمة لتفتح الأزهار .