محمود القصاب
سيبقى الخلاف محتدماً ودائماً حول ماهية العلاقة بين الثقافة والسياسة، وسيظل هذا الخلاف في الحاضر والمستقبل، يأخذ حيزاً من الجدال والنقاش الدائر بين الثقافي والسياسي، فأحدهما يستدعي حضور الآخر، ليس بالضرورة كنقيضين كما يتصور البعض، وإنما بسبب طبيعة العلاقة الشائكة والمتداخلة بين هذين المجالين.
فالثقافة في معناها الواسع تتميز بالحيوية والتنوع، وأساس تطورها هو التعدد في وجهات النظر، والتحاور الذي يغني الحاضر ويستشرف المستقبل، بينما السياسة في معناها الضيق والجامد، تعني المراوحة وتكريس الواقع، من خلال اللجوء إلى الإجراءات التي تلجم العقل، والقرارات التي تقمع المخالف، لأنها ترفض التجديد وتعاند التطور والإصلاح. وتماشياً مع هذه السياسة يتم وضع القيود وفرض الحدود التي تمنع وصول العقل والفكر خارج إطار ما هو مرسوم.
إن مثل هذا العقل السياسي لا يقبل سوى الثقافة الخاضعة والامتثالية التي تتماهى مع التوجهات الرسمية، وفي أحسن الأحوال أن تكون ثقافةً مدجّنة، والمحصلة الطبيعية لمثل هذا الوضع معروفة سلفاً، هي عقم وجفاف المجتمع، والسير به إلى دروب الخواء إن لم يكن إلى الخراب أو التقهقر على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية.
نحن هنا أمام إحدى القضايا الفكرية الخلافية غير القابلة للحسم لا في الحاضر ولا في المستقبل المنظور، إنما هدفنا الاستهلال بها كمقدمة، وكقاعدة انطلاق لمعالجة واقعة إلغاء ندوة نادي العروبة «الاتحاد الخليجي والمتغيرات الإقليمية» التي كان من المفترض عقدها الأسبوع الماضي، وقد جاء قرار المؤسسة العامة للشباب والرياضة بمنع هذه الندوة قبل ساعات قليلة من بدئها، وبشكل مفاجئ على حد وصف بيان اللجنة الثقافية بنادي العروبة. إلا أن هذا القرار في واقع الأمر لم يكن «مفاجئاً» طالما له سوابق مماثلة، فقد كان قراراً صادماً في أسلوبه وأسبابه وتوقيته، لذلك هو يحتاج إلى وقفة متأنية لاستجلاء الآثار التي يمكن أن يخلفها القرار وغيره من الإجراءات المساندة له على واقع الثقافة والسياسة معاً في البلد! لأن تكرارها واستمرارها على هذا المنوال يحمل مخاطر أكيدة على مستقبل الإصلاح والديمقراطية في البلاد، لأنها قرارات تطل علينا من حين إلى آخر من حقبة «مظلمة» شعارها المنع والقمع، حيث كانت الممنوعات والمحظورات سيدة الموقف. وهي حقبة حسبنا جميعاً أننا قد اجتزناها دون رجعة، وإنها صفحة سوداء قد طويت، قبل أن تعود المؤسسة العامة من جديد وتفاجئنا بإشهار «سيف السياسة» في وجه الثقافة، لقطع جذورها ووقف ازدهارها. وبذلك نعود إلى ذات الأجواء غير الصحية والمناخات غير الديمقراطية تحت ذريعة مخالفة القوانين والأنظمة «التي تحظر عمل الأندية الثقافية في المجالات السياسية»! دون أي اعتبار إلى حقيقة أن الثقافة السياسية جزءٌ من الثقافة العامة للمجتمع، وأن أية لوائح أو قوانين لا تميّز بين الأندية الرياضية والمؤسسات أو الأندية الثقافية من حيث الوظيفة والدور هي حتماً قوانين متخلفة و «ممانعة» للإصلاح، وأن استمرار العمل بها يمثل حالة غريبة ومعيقة للتطور والنهوض الثقافي والاجتماعي.
ولسنا بحاجة إلى تذكير المؤسسة بأن نادي العروبة قد نظم عشرات الندوات والمحاضرات السياسية في حقبة قانون أمن الدولة سيئ الصيت وبعدها، وبموافقة المؤسسة ذاتها وفي ظل ذات القانون الذي بموجبه ألغيت الندوة الأخيرة.
مختصر القول إن مثل هذه القرارات تتعارض مع جوهر الديمقراطية والتعددية واختلاف الآراء، التي تعتبر الحواضن الطبيعية لازدهار الفكر والثقافة، كما تشكل تعدياً على الحريات التي كفلها الدستور للمواطنين وللمؤسسات الأهلية على حد سواء.
إن نادي العروبة كان وسيبقى أحد الساحات الثقافية والصروح الفكرية والاجتماعية التي ترفد العملية الإصلاحية في البلاد، ومهمته ستكون دائماً لعب دور تنويري في المجتمع، ومذ وُجد قبل سبعة عقود وهو يحمل رسالة وطنية جوهرها التطور والإصلاح في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، ووضع أية عقبة في طريق تأدية هذه الرسالة هو أمر غير منطقي وغير مفهوم، بل هو أمر يثير الكثير من الشكوك في بعض الأيادي الخفية والأمزجة المعاندة للديمقراطية التي تصول وتجول دون حسيب أو رقيب، وتتعمد الإساءة إلى سمعة البلد، ولا تريد له أن ينهض من جديد لمغادرة حالة العجز التي يعاني منها، وخصوصاً في ظل هذا الظرف الذي يتلمس البلد فيه طريقه للخروج من الأزمة التي يمر بها، في الوقت الذي نرى تلك القوى تعمل وبإصرار غريب، على إدخاله في أزمات جديدة. لذلك نحن لا نعرف مغزى هذا القرار أو طبيعة «الرسالة» التي يحملها في وقت تمثل فيه المنامة «عاصمة للثقافة العربية»؟ وما يحمله مثل هذا القرار من دعوة مناهضة لأي تطور أو نهوض ثقافي وإصرار على التحكم في كل المجالات العامة وإخضاعها للرقابة المتشددة.
وإلا كيف لنا أن نفسّر قرار إلغاء ندوة كان من المتوقع أن تسلط الضوء على جوانب سياسية واقتصادية وحقوقية في قضية مهمة مثل «الاتحاد الخليجي»؟ وهو الموضوع الذي يعرف القاصي والداني اليوم أنه أحد القضايا التي تتصدر اهتمامات الدول الخليجية والعديد من القوى السياسية والمجتمعية، بالإضافة إلى أن هذه القضية باتت تشغل حيزاً كبيراً من اهتمامات وسائل الإعلام في أعقاب آخر قمة خليجية عقدت في ديسمبر الماضي وانطلقت منها فكرة هذا الاتحاد. كما بات معروفاً أن البحرين هي أحد أكثر الدول حماسة واهتماماً بهذا الاتحاد.
في الدول الديمقراطية التي تقيم وزناً لشعوبها عندما تريد أن تقدم على أية خطوة إستراتيجية أو تتخذ قرارات مصيرية تتعلق بحياة ومستقبل شعبها، تقوم عادةً بطرح القضية للنقاش المفتوح، وإطلاق ورش العمل والمؤتمرات والندوات لبحث ودراسة أي قرار، وتدعو كل النخب من الأكاديميين والمثقفين ورجال الفكر والسياسة وقوى المجتمع والثقافة للمشاركة في هذه الحوارات، من أجل معرفة الاتجاه العام تجاه هذه القضية المطروحة للنقاش، ومن أجل بلورة رأي عام مساند بعد تقديم الأدلة والبراهين التي تؤكد صحة ومصلحة البلد وشعبه في الإقدام على هذه الخطوة أو الإحجام عنها، وذلك قبل أن يمر هذا القرار في مراحله الأخيرة إلى المؤسسات الدستورية واستفتاء الشعب فيه، من أجل ضمان الشرعية اللازمة له، وهذه هي الخطوات الطبيعية التي كان يجب أن ترسم مسار قضية مصيرية مثل الاتحاد الخليجي، مع إيماننا العميق بأن وحدة الخليج العربي هي الضمانة لأمن ومصالح ومستقبل كل أقطاره وبما ينعكس إيجابياً على الوطن العربي والأمة كلها، وأن هذه الدعوة للاتحاد إذا ما تمت في إطار هذه الرؤية القومية فإنه سيكون حتماً خياراً شعبياً قبل أن يكون خياراً للأنظمة والحكام.
لذلك نحن نتساءل هنا: أليس من حق شعب البحرين بكل أطيافه ونخبه السياسية والاجتماعية ومؤسساته الثقافية والأهلية، أن يناقش قضية الاتحاد الخليجي المطروحة للتداول اليوم؟ وأن يقول رأيه فيها بكل حرية وشفافية، طالما أنها مسألة تمس حياته وتتعلق بمصير ومستقبل أجياله، أم المطلوب منه فقط انتظار نزول قرار الاتحاد عليه من السماء وكل ما عليه بعد ذلك هو المباركة والتسليم، لتتلوه قرارات أخرى. وعندها سوف لن يمنعنا أحد من «التدخل في السياسة»، وستعود كل اللوائح والقوانين إلى مخادعها لتنام هانئةً مطمئنة، قبل أن يتم إيقاظها مرةً أخرى لإشهارها في وجه أي فعالية ثقافية جديدة لا يراد لها أن ترى النور! وهكذا تصبح السياسة خصماً وطاردةً للثقافة بدلاً من أن تكون عوناً و«حاضنة» لها.