عبد الاله بلقزيز
كل شيء، في مجتمعاتنا العربية اليوم، بات عرضة للبيع، كل ما احتيز بالتضحيات الجسام والكفاح والعرق، وروهن على أن يكون مورداً للتقدم، وطاقة للإنتاج، ورافعة للنهضة، بات في حكم السلعة القابلة للعرض في أسواق الطلب . الجميع يبيع، الدولة والمجتمع على السواء، وكأن البائع في غناء عما يبيع وكأن الاحتفاظ بما كسب واكتسب يغرم صاحبه خسارات فادحة لا قبل له باحتمالها .
قبل عقدين أو ثلاثة، الدولة وحدها كانت تبيع نفسها وأملاكها لمن يدفع . فعلت ذلك، في البداية، على مضض ومن دون كبير حماسة، بعد إذ أبلغتها المؤسسات المالية والنقدية أن ذلك من شروط التعامل معها، ونفحها بما تيسر من قروض . ثم لم تلبث أن انغمست في مهرجان البيع والتفويت، وقد سمته خوصصة (استخصاص أو خصخصة)، فأعطت وما استبقت شيا، وهي إذ باعت ما باعته من مؤسسات وقطاعات وحقوق استثمارية، لم تميز في المشترين بين محليين وأجانب، بعد أن متع ذوو القربى والأزلام بنصيب معتبر، ولم تحسب حساب يوم تفيض فيه الصدور بما اختزنت من مشاعر الحنق والغبن . ولقد فاضت وقالت ما كان يغلي في مراجلها في غير بلد من بلدان عرب اليوم، منذ انتفضت في تونس في العام 1978 وحتى انتفاضاتها اليوم .
كان يسعنا، في الماضي، أن نقول (ومازال يسعنا ذلك) إن الدولة – أو السلطة الحاكمة على وجه الدقة – ليست حريصة على أملاك الشعب ومقدراته وماليته العامة إلى الحد الذي تنتصر فيه لحقوقه أمام ضغط المؤسسات الدولية وتوصياتها، فتعرض نفسها لعقاب الدول الكبرى ومخالبها المالية، فثقافتها السياسية تبيح لها أن تتصرف في أملاك الشعب، ومن دون حرج، بوصفها أملاكاً خاصة قابلة للتصرف والتفويت والبيع، يساعدها على ذلك أن أحداً لا يمارس عليها احتساباً أو رقابة، وإن جرب أن يفعل، دفع الثمن الباهظ، ومبرراتها أن تجارب التنمية القائمة على سياسة التخطيط المركزي، وعلى مركزية القطاع العام، فشلت في أغلب دول العالم، وأن نمط الاقتصاد المسيطر في العالم يفرض على اقتصاداتنا أشكالاً من التكيف الاضطراري تبدأ بتمكين القطاع الخاص من أداء دوره “التنموي”، وبخفض نفقات الدولة في التجهيزات والبنى التحتية، وفي دعم المواد الأساس للاستهلاك الشعبي الذي يلتهم المالية العامة، ووقف سياسات توفير فرص العمل للخريجين، وكل ما كان “يرهق” الدولة بأعباء لا قدرة لها على حملها .
كان يسعنا أن نعترض على السياسات الرسمية للنخب الحاكمة، وعلى عرضها مكتسبات المجتمع والدولة والشعب للتبديد، وأن نحاججها بمنطق نقيض يكشف عورات “مشروعها” الاقتصادي، ولكن كان يسعنا – في الوقت عينه – أن نستنتج أن ما تفعله من تبديد إنما هو من طبيعتها كطبقة اجتماعية مندمجة المصالح في النظام الاقتصادي العالمي، وأن تبعيتها الصارخة للميتروبولات اقتصادياً هو عينه الذي يفسر تبعيتها السياسية للسياسات الغربية تجاه قضايا حيوية عندنا مثل قضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني، والأمن القومي، والتعاون الاقتصادي العربي البيني وما شاكل من قضايا أتت عليها النخب الحاكمة بالتجاهل أو بالمحو .
ولكن، ما القول – اليوم – في معارضات عربية تدخل في المسار عينه الذي دخلت فيه الأنظمة قبلها، فتعيد إنتاج سيرتها في البيع والشراء والمتاجرة بما كان في حكم الحرم الاجتماعي والمعنوي الذي لا ينتهك؟ والأنكى والأمر أن تفعل ذلك باسم الشعب، أو باسم قيم عليا، في الفكر والاجتماع، مثل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وما اقترن بها، أو جاورها من مبادئ وأهداف . إن بعض المعارضات تفوق على الأنظمة في انتهاك المحرمات السياسية والاجتماعية، التي تعارفت عليها شعوبنا منذ المعركة من أجل نيل الاستقلال الوطني، والتي كانت هذه المعارضات من سدنتها الذابين عنها في فترة من الزمن سابقة . لقد أصبحت السيادة والاستقلال واستقلالية القرار الوطني سلعة رخيصة عند قسم غير قليل من المعارضات العربية، وما عاد بعضها يتحرج في التعاون مع الأجنبي، وفي مطالبته بالتدخل العسكري في وطنه، وتدمير جيشه ومؤسسات الدولة . بل ما عاد بعضها يخجل من تقديم عروض “السلام” مع الكيان الصهيوني منذ الآن طمعاً في رضا أمريكا وأخواتها، واستدراراً للدعم منها في معركته مع نظامه وقد خرجت من الشارع المدني إلى ساحات القتال، وانتقلت قوتها الاجتماعية من الشعب إلى المليشيات .
ثم ما القول – اليوم – في جمهور عرمرم من “المثقفين” الذين خانوا رسالة الثقافة، كالتزام بالعلم والمعرفة ودفاع عن القيم والمبادئ العليا في الحياة والاجتماع الإنساني، وارتضوا أن يسخروا رأسمالهم الثقافي والمعرفي لخدمة أهداف معادية للوطن والشعب وقيم الحرية والعدالة والديمقراطية، بمعناها الصحيح لا المزيف، وبما هي أهداف تنشدها الشعوب بنضالها المستقل، والسلمي، لا بتدخل الأجانب لتفجير أوطانها . لقد انتقل قسم غير يسير من هؤلاء المثقفين من “ضمير” للمجتمع والأمة – أو هكذا هم عرفوا أنفسهم يوماً – إلى لسان للقوى الكولونيالية، باسم نشر الديمقراطية ومناهضة الاستبداد، متجاهلين أن القوى إياها من حمى ذلك الاستبداد ورعاه لحاجتها إليه في ما مضى، وهي عينها التي ترعى – اليوم – استبداداً جديداً أشد هولاً باسم “حاكمية” صناديق الاقتراع . ولم يتحرج كثير منهم في إعادة تسمية الإمبريالية، والصهيونية، والاستعمار، والتبعية، والعنصرية، والأصولية المتطرفة، بأسماء جديدة مهذبة لإسباغ الشرعية على التعامل معها، والدفاع عنها، وإعادة النظر في ما كان في حكم المبادئ والثوابت الوطنية أو القومية أو الاشتراكية، وتسفيهها، والنيل منها . تحولت هذه الفصيلة من المثقفين إلى “مليشيان ثقافية” – كما وصفتهم في كتاب لي – ترادف في أفعالها “الثقافية” أفعال المليشيات المسلحة التي تكاثرت في زمننا كالطفيليات .
ما الذي بقي، إذاً، من دون أن يعرض للبيع؟