يذكر التاريخ للسلطان عبد الحميد في رده على هرتزل حينما حاولوا تقديم ملايين الليرات الذهبية له في مقابل السماح لليهود بالتملك في أرض فلسطين «لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من ارض فلسطين فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه.. فليحتفظ اليهود بملايينهم. إذا مزقت إمبراطوريتي فلعلهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق في جثثنا. فأني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة. فلن أسوّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي ولن أقبل أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار»، فمهما اختلفنا مع تقييمنا للدولة العثمانية ومهما قلنا عنها وعن دورها، فسيبقى التاريخ يحفظ لهذه الدولة رفضها تهويد أرض فلسطين ووقوفها في ذلك الوقت ضد المحاولات المستمرة لبدء مشروع الصهاينة الاستيطاني.
كذلك اليوم فقد أفرز العدوان الصهيوني على غزة إضافة لما أفرزه من عري النظام الرسمي العربي وتداعيه وتواطؤه في أحيان أخرى، فقد أبرز مواقف إنسانية مهمة من دولة غير عربية في فضح جرائم الصهاينة في عدوانهم على غزة، فمهما حاول المحللون تفسير دوافع وغايات تلك المواقف، أو توجيه اللوم للجماهير العربية إذا هتفت لشافيز أو هتفت لأردوغان واعتبرته بطلاُ، فذاك دليل على تعطش الناس إلى شخصية كاريزمية تتصدى لعربدة هذا الكيان الغاصب وقد خرست ألسن النظام العربي الرسمي عن أية كلمات لأدانته، فستبقى مواقف شافيز وأردوغان مواقف تاريخية مهمة وتشكل تغييراً على المستوى السياسي في الوقوف أمام العربدة الصهيونية التي لا تجد رادعا لها من العالم الذي يدعي التحضر في دافوس حينما يقف مصفقاً لشمعون بيريز مجرم الحرب وهو يرفع عقيرته بالصراخ كذباً ودجلاً وحقداً في عرضه لجرائمه وجرائم جيشه في غزة.
كل التصريحات التي صدرت عن رئيس الوزراء التركي أردوغان تندد في اليوم الأول اتسمت بالجرأة والقوة، ولكن في دافوس وأمام المشهد الذي بدا في ذلك المؤتمر وكأنما جاء ليسوق للجريمة بالكذب والدجل، فكان لابد أن يتصدى لكل ذلك الكذب حتى تكشف للعالم أن دافوس وغيرها من هذه المؤتمرات ليس فيها من الديمقراطية من شيء إذا كان الحديث لفضح جرائم الصهاينة، لذلك غادر غاضباً من دافوس واستقبله شعبه استقبال الأبطال، كما أن اللافت في الأمر هو الموقف الشعبي التركي كذلك الذي خرجت جموعه يومياً منددة بالعدوان ضد غزة.
لذلك أكد أردوغان في تصريحاته أن العدوان الإسرائيلي على سكان قطاع غزة «نقطة سوداء في تاريخ الإنسانية»، وتساءل عن مبررات «هذه الوحشية» التي قال إن المسؤولين الإسرائيليين يتعاملون بها. وجدد أردوغان اتهامه لإسرائيل بالمسؤولية عن التوتر الذي تشهده المنطقة، وقال إن ما تقترفه من «مذابح ضد الفلسطينيين يفتح جروحاً يصعب شفاؤها في ضمير الإنسانية». وقال إن العمليات الإسرائيلية في غزة تهدد سلسلة من التطورات التي تبعث على الأمل في الشرق الأوسط، ومنها محادثات السلام السورية الإسرائيلية التي تجري بوساطة تركية. وأضاف أن الهدف من العملية العسكرية الإسرائيلية في غزة هو «تسجيل مكاسب انتخابية» في الانتخابات البرلمانية التي من المنتظر أن تجرى بإسرائيل، كذلك فقد جدد أمام برلمانيي حزب العدالة والتنمية الحاكم دعوته إسرائيل إلى وقف هجومها على قطاع غزة فورا، ووصف الأطراف التي لم تدن الهجوم بأن لها «معايير متعددة». وتساءل أردوغان «لماذا الذين هرولوا سريعاً لمساعدة جورجيا هادئون الآن»، وذلك في إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة الأميركية التي سارعت إلى إرسال مساعدات إلى جورجيا عقب الهجوم الروسي عليها في أغسطس/ آب الماضي.
الصورة من دافوس كما كشفت حماسة أردوغان وهو بدافع عن كرامة بلده أساساً في دفعه للكذب الذي أسداه شمعون بيريز، فقد كشفت الصورة في الجانب الآخر تصفيق الحاضرين من الدول الأوروبية من المهيمنين على السياسة والاقتصاد في العالم التصفيق للجريمة والمجرمين، كما كشفت حالة أمين عام جامعة الدول العربية وقد تنازعته حالات عدة فكان يقدم رجلاً ويؤخر أخرى أيجلس أم يخرج مع أردوغان حتى طلب منه أمين عام الأمم المتحدة بأن يجلس فامتثل، فيا للصورة وما تكشف من معان ودلالات، رغم أن الجلوس أساساً في صف بيريز يؤكد التطبيع مع الكيان الغاصب ولا ندري من هو صاحب القرار في ذلك وهل هناك قرار سري بالتطبيع بين جامعة الدول العربية والكيان الغاصب.