د / يوسف مكي
على هامش انعقاد اجتماع الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، في العاصمة اليمنية (صنعاء)، يومي 26 و27 يناير/ كانون الثاني 2013، أتيحت لنا فرصة تحقيق لقاءات عديدة مع مسئولين بالحكومة اليمنية، وبعض القيادات الحزبية. وكان الأبرز بين تلك اللقاءات، هو الاجتماع برئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي، ورئيس الحكومة محمد سالم باسندوة، والأمين العام للجنة التحضيرية للحوار الوطني الشيخ حميد الأحمر.
ما أضفى أهمية على هذه اللقاءات والمناقشات التي صاحبتها، هو تزامنها مع وصول الوفد الأممي، برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بهدف المتابعة والاطمئنان إلى عملية الانتقال السياسي السلمي في البلاد. ولذلك فإن من الطبيعي أن تطغى العملية الانتقالية السياسية التي يمر بها اليمن الشقيق، في هذه المرحلة على ما عداها من الموضوعات الأخرى، أثناء المناقشات المكثفة مع المسئولين اليمنيين.
نبرة التفاؤل والتطلع إلى المستقبل، والثقة بالقدرة على عبور المرحلة الانتقالية، بقيت سائدة لدى جميع من حظينا بمقابلتهم من القادة. لكن ذلك لم يمنع من الإشارة إلى وجود مثلث الأزمة المتمثل في الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال، ووجود القاعدة في محافظة أبين، وأيضاً تمرد الحوثيين في صعدة شمالي البلاد.
لقد اندلعت الثورة اليمنية، في مختلف ميادين المدن الرئيسة، في مجتمع من أكثر المجتمعات العربية، احتفاظاً بالسلاح، حيث يقدر ما يحمله الشعب اليمني من السلاح بأكثر من مليون قطعة. ومع ذلك حافظ الثوار على سلمية الثورة، منذ بدايتها حتى الاتفاق على العملية السياسية التي تمهد للانتقال في السلطة وتغيير شكل الحكم وإعادة هيكلته.
وعن موضوع اندلاع الثورة، لا يتوقف قادة اللقاء المشترك، عن التذكير بأن ثورتهم سبقت مختلف الثورات التي شهدها موسم «الربيع العربي»، وأن ثورة تونس كان دورها هو التحريض على الدفع بإيقاع الثورة، حيث قرر الثوار الاعتصام أمام السفارة الفرنسية، احتجاجاً على تهديدات حكومة الرئيس السابق نيقولا ساركوزي، بالتدخل عسكرياً لمناصرة الرئيس التونسي المخلوع.
ثم استعيض عنه، بعد هروب بن علي، بالتظاهر أمام السفارة التونسية، مباركين الثورة.
وعلى النقيض مما حدث في ثورات عربية مماثلة، فإن التوجه السلمي للثورة هو الذي رسّخها، وحماها من الانهيار حتى النهاية، وقد مكنها ذلك من تحقيق أهدافها. كما أن مشاركة كل قوى المعارضة في الثورة منذ بداياتها، واتفاقها على برنامج سياسي واضح ومتكامل، حال دون بروز سياسات التهميش والإقصاء، وقد وضع ذلك سدوداً قوية تمنع عملية اختطاف الثورة من أي من القوى السياسية الفاعلة، كما حدث في البلدان التي تمكن فيها «الإخوان المسلمين» من القفز إلى السلطة.
لقد حافظ الثوار على ممتلكات الدولة، وتجنبوا العنف والتصادم مع أجهزة الأمن، ولم يحدث في اليمن ما حدث في مصر وليبيا، وبقية البلدان التي شهدت موسم الثورات. ولم يكن الاتجاه السلمي للثورة عفوياً، بل جاء نتيجة خطة محكمة، اعتمدت الاعتصام في الميادين بدلاً من التظاهر في الشوارع. بمعنى أن الثوار، لم يتحركوا من مواقعهم، ومارسوا احتجاجاً، غاية في الرقي والسلمية، لم يمكّن أجهزة الأمن من اتهامهم بالحرق أو التخريب أو الاعتداء على الممتلكات العامة.
ولاشك في أن الدور الذي لعبته دول مجلس التعاون الخليجي، في استقرار اليمن، وتوصل مختلف الفرقاء السياسيين، إلى اتفاقية، تضمن مشاركة الجميع، وعدم تهميش أي طرف من مكونات النسيج السياسي اليمني، قد ساهمت بشكل مباشر، في حالة الاستقرار التي تسود اليمن الآن.
في هذا الاتجاه، يسود شعور عام لدى اليمنيين، أن نجاح العملية السياسية التي تمخضت عن المبادرة الخليجية التي وقّعت في الرياض، برعاية سعودية، من شأنه أن ينقل اليمن إلى الدولة المدنية، ويساهم في تحقيق نظام ديمقراطي، يعتمد الفصل بين السلطات وبين المؤسسات التنفيذية والتشريعية ويؤمن استقلال القضاء، ويستند إلى تداول السلطة. إن هذا الانتقال هو وحده الذي سيمكن الدولة اليمنية من تجاوز أزماتها، ويجعلها قادرة أن تتعامل بفعالية مع ما أطلقنا عليه مجازاً «مثلث الأزمة».
فالأزمة كما جرى تشخيصها، هي نتاج لأزمة ونهج حكم، غيبت فيه الشفافية، وتغوّلت فيه السلطة، ومارست الاستبداد، وهدرت مصالح الناس، وجرى السطو على الممتلكات، واتسعت فيه الفجوة بين المركز والأطراف، وأصبح عجز الدولة جلياً وواضحاً، عن مقابلة الحاجات الأساسية للمواطنين. ولعدة عقود، استبدلت المحسوبيات في وظائف الدولة، بالكفاءات والوجاهة بالقدرة على الإدارة، فكان من الطبيعي، أن تعم حالة الاحتقان، لدى أغلبية ضحايا هذه الممارسات، وبشكل خاص في المناطق التي حرمت من التنمية، ومن نيل الحقوق الأساسية. فكان ذلك المعبر الذي نشطت من خلاله قوى التطرف في أبين وصعدة، وهو ذاته الذي خلق مناخات ملائمة للقوى الانفصالية التي تعمل تحت مسمى الحراك الجنوبي، لفصله عن الشمال. ولو تحققت مشاريع التفتيت في صعدة وأبين والجنوب، لأصبح القطر اليمني الشقيق في ذمة التاريخ.
إن الانتقال إلى الدولة المدنية، يعني تراجع كل الأمراض التي عصفت بالمجتمع اليمني خلال العقود الأخيرة. ويعني أيضاً قيام دولة تعتمد المساواة والندية والتكافؤ، وتضييق الفجوة بين المركز والأطراف وبين الغنى والفقر، وتفجر طاقات الشعب اليمني، نحو التنمية والخلق والإبداع. وذلك ما ينقل اليمن إلى مرحلة أخرى تتماهى مع عصر كوني جديد، خلاصته حق الشعوب في تقرير مصائرها وأقدارها، ونيل حقوقها التي أقرتها مبادئ السماء، وشرعة الأمم وإعلانات حقوق الإنسان.
إن تعميم مفهوم المواطنة، هو الذي ينقل معالجات الأزمة، من اختزالها على الجانب الأمني والعسكري، إلى معالجة أخرى تعتمد الحوار والتفاعل بين مختلف مكونات النسيج الاجتماعي اليمني، وذلك ما يضع اللبنات الأساسية المتينة على طريق تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة. فهل بالإمكان اعتماد ما حدث في اليمن السعيد، نموذجاً باهراً يقتدي به الثوار في بلدان الربيع العربي؟.