عوني فرسخ
في 29/11/1947 أصدرت الأمم المتحدة قرار التقسيم، وفي اليوم ذاته بعد خمس وستين سنة أصدرت قراراً باعتبار فلسطين “دولة مراقبة غير عضو” . وبينما عمت فلسطين المظاهرات الرافضة قرار التقسيم والمنددة بالولايات المتحدة والدول التي أيدت إصدار قرار مخالف لميثاق الأمم المتحدة وحق شعب فلسطين بتقرير مصيره، بالمقابل عمّت الضفة الغربية وقطاع غزة مظاهرات الفرح بالقرار الأخير . فبماذا يفسر تناقض الموقف الفلسطيني في الحالين؟ هل قرار “الدولة غير العضو” خطوة ذات اعتبار في إقامة الدولة كاملة السيادة على الأرض المحتلة سنة 1967أو أن إشاعة الفرح بصدوره إعادة إنتاج بائسة للأفراح التي سيّرتها قيادة ياسر عرفات غداة توقيع أبو مازن لاتفاق أوسلو كارثي النتائج في 13/9/1993؟
وفي الإجابة عن السؤال المطروح وإلقاء الضوء على ما كان وما هو كائن، أسجل الملاحظات الآتية:
1 – كانت فلسطين عشية صدور قرار التقسيم عربية الهوية كما يوثق ذلك “إيلان بابه” أكثر المؤرخين “الإسرائيليين” الجدد موضوعية، إذ كان المواطنون العرب يجاوزون ثلثي سكانها، ويمتلكون 94% من أرضها، فيما المستوطنون الصهاينة أقل من ثلث السكان ولا يحوزون سوى 8 .5% من الأرض . وبرغم ذلك أعطاهم قرار التقسيم 4 .56% من فلسطين، وأعطى المواطنين العرب أصحاب الوجود الطبيعي والتاريخي فيها 4 .42% .
وتعقيباً على ذلك كتب “إيلان بابه” يقول: “لو قررت الأمم المتحدة أن تجعل الأراضي التي يستوطنها اليهود في فلسطين متناسبة مع حجم دولتهم لما كانت أعطتهم أكثر من 10% من البلد” . فيما يقرر الكاتب البريطاني “ديفيد هيرست” أنه كان من الطبيعي أن يرفض شعب فلسطين قرار التقسيم، ولقد شاركتهم في رفضه جميع الدول العربية والإسلامية والهند واليونان وكوبا .
2 – كانت بريطانيا قد مكّنت الصهاينة زمن الانتداب من امتلاك جيش حديث من ستين ألف شاب وفتاة حسني التدريب والتسليح وصناعة سلاح متقدمة . وبعد أن أجهضت ثورة 1936/1939 العربية جردت المواطنين العرب من السلاح ولاحقت مناضليهم بالاعتقالات والنفي . وكانت لها قوة التأثير في قرارات الدول العربية التي عيّنت الجنرال غلوب قائداً للقوات المحدودة التي زجت بها في حرب 1948 دون إعداد كاف . ويقول غلوب: “كنا ممنوعين من تجاوز حدود التقسيم” . فيما لم تكن الأمم المتحدة قد وضعت آلية لتنفيذ قرار التقسيم . وبالنتيجة كانت الحرب محسومة والنكبة محتومة .
3 – لم يعد ميزان القدرات والأدوار مختلاً لمصلحة الصهاينة ورعاتهم على جانبي الأطلسي كما كان سنة 1948 . ولقد أوضحت في المقال السابق أن “إسرائيل” لم تعد رصيداً استراتيجياً لهم، وإنما عبء تاريخي على دافعي الضرائب عندهم، وأنها بعد فشلها في استعادة قوة ردعها في “حرب الأيام الثمانية” باتت عاجزة عن تصدير أزماتها الداخلية بالعدوان على جوارها العربي . وحسبي التذكير بمقال هنري كيسنجر عن توقعه زوال الكيان الصهيوني في العقد المقبل .
4- في الزمن الذي وصلت فيه “مفاوضات” فريق أوسلو إلى طريق مسدود، وسقطت فيه أساطير التفوق الصهيوني، طرحت فكرة “الدولة” غير العضو . وقبل أن يتقدم الرئيس عباس بالطلب إلى الأمم المتحدة، أجرى لقاء مع القناة “الإسرائيلية” الثانية صرح فيه بأنه يعدّ الضفة الغربية وغزة هما فلسطين والأجزاء الأخرى هي “إسرائيل” . وأغلب الظن أنه أراد بذلك التأكيد المسبق أنه لا يتقدم بطلبه باسم فلسطين التاريخية والأحد عشر مليون فلسطيني المعاصرين، وإنما باسم الضفة المحتلة والقطاع المحاصر وما لا يجاوز 30% من شعب فلسطين .
5 – كانت الأمم المتحدة قد أصدرت القرار 3237 في 22/11/1974 باعتبار “منظمة التحرير الفلسطينية” عضواً مراقباً فيها، ثم أكدته بالقرار 52-250 في 7/7/1998 . والمنظمة تمثل شعب فلسطين في الوطن المحتل والشتات . وحيث لا يجوز تمثيل الدولة الواحدة أو الشعب الواحد بأكثر من ممثل في الأمم المتحدة، فإن قرار الدولة غير العضو يلغي القرارين السابقين، ما يعني أنه عدا مواطني الضفة والقطاع لم يعد لبقية شعب فلسطين من يمثله لدى المنظمة الدولية .
6 – قيل في تبرير طلب الدولة غير العضو أنه سيكون باستطاعة سلطة رام الله التقدم إلى محكمة الجنايات الدولية بالشكوى عمّا اقترفته “إسرائيل” بحق شعب فلسطين . وهو ادعاء غير واقعي لأن الشكاوى أمام الجنائية الدولية لا بد أن يجيزها مجلس الأمن، ول”إسرائيل” فيه رعاة يملكون حق النقض . فضلاً عن أن “إسرائيل” غير موقعة على قرار إنشاء المحكمة وبالتالي فهي غير خاضعة للمساءلة أمامها: وكان حرياً بمدعي الحفاظ على الحقوق الفلسطينية المشروعة اللجوء الى اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 الخاصة بحقوق المواطنين تحت الاحتلال، وهذا ما لم تفكر به سلطة حكم الذات منذ إنشائها سنة 1994 .
7 – في اليوم التالي لصدور قرار “الدولة غير العضو” صرح أبو مازن بأنه سيتقدم بالشكوى للجنائية الدولية إذا قامت “إسرائيل” بالعدوان . وكأن احتلال الضفة واستشراء الاستيطان وتكثيف تهويد القدس غير المشروعين دولياً، وحصار القطاع ليس بعدوان، أو أن هدم المنازل واقتلاع الأشجار وإقامة الحواجز والجدار العنصري ليس بعدوان، أو أن بقاء آلاف الأسرى والمعتقلين واحتجازهم لسنوات ليس بعدوان؟
8 – غير صحيح الزعم أن القرار الذي يسوقونه على أنه انتصار، أعاد الاعتبار لقضية فلسطين في المحافل الدولية . وهو زعم يدحضه الحضور الفلسطيني الذي فرضه إفشال كل مشاريع التوطين الأمريكية منذ العام 1949 . ثم أبرزته على نحو مبهر انتفاضة أطفال الحجارة سنة ،1987 وأكده صمود قطاع غزة في مواجهة عدوان ،2008 ثم بعدم تمكينه آلة الحرب الصهيونية من استرداد قوة ردعها في “حرب الأيام الثمانية” .
9 – قد تكون الإيجابية الوحيدة ذات الاعتبار ما عكسه التصويت في الأمم المتحدة مؤخراً المتميز كيفياً عن نتيجة التصويت على قرار التقسيم بفعل ممارسة إدارة الرئيس ترومان أشكالاً من الضغوط والإغراءات حتى أقره ثلثا أعضاء الأمم المتحدة . في حين أن القرار الأخير أيدته 138 دولة من 191 ما يعادل 25 .72%، وعارضته 9 دول بمعدل 27 .4% برغم ضغوط إدارة الرئيس أوباما . وفي ذلك دلالة على أن الزمن لم يسر منذ صدور قرار التقسيم لمصلحة “إسرائيل” ورعاتها . وهذا وحده ما يبعث الأمل لدى شعب فلسطين وليس القرار الذي يحاول تسويقه الرئيس عباس وكأنه النصر المبين .