د. عبدالإله بلقزيز
يمثل رحيل طارق عزيز، وزير خارجية العراق الأسبق، رحيل آخر رمز من رموز الدولة الوطنية في العراق الحديث، وربما يعلن في الآن عينه نهاية لفكرة الدولة الوطنية في بلد حوّلته الغزوة الكولونيالية الأميركية والعصابات الأهلية البدائية إلى غابة للضواري لا يتبيّن في أنفاقها أفق.
وجود الراحل طارق عزيز في قمة هرم السلطة في بلاده، قبل الاحتلال، والمكانة المميّزة التي كان يحظى بها عند الرئيس الراحل صدام حسين وقبله عند الرئيس احمد حسن البكر، وتسليمه قطاعات سياسية حيوية لفترة طويلة (الإعلام الخارجية)، ناهيك بموقعه القيادي كعضو في «مجلس قيادة الثورة»… جميعها شواهد على أن دولة وطنية قامت في العراق يوماً قبل أن تقضي تحت سنابك خيل الغزاة، وعملائهم القادمين على صهوات دباباته، وردائفهم من الطائفيين والمذهبيين والانفصاليين ممن يستكملون، بأفعالهم الشنيعة، ما كان الاحتلال قد بدأه قبل اثني عشر عاماً: تدميراً للدولة الوطنية ومؤسساتها، وتقطيعاً لأوصال الوطن الجامع، وتمزيقاً لنسيجه الاجتماعي، وتفجيراً لتناقضاته الداخلية على النحو الذي يحوّلها من تناقضات اجتماعية سياسية إلى تناقضات عصبوية بدائية!
إذا تذكّرنا أن طارق عزيز مسيحي النسب الديني، أدركنا معنى الدولة الوطنية؛ فالمناصب الرفيعة التي تقلّدها، طوال ثلاثين عاماً، والمكانة الاعتبارية الخاصة التي كانت له، والدور القيادي الذي جعل منه، أحياناً، الرجل الثاني أو الثالث في الدولة… كان وراءها قرار سياسي وطني لم يلحظ تابعية طارق عزيز إلى هذه الطائفة أو إلى ذاك المذهب، وإنما لحظ انتماءه إلى الوطن العراقي الجامع، ومواطنيته وكفاءته العلمية والإدارية، ونضاله في سبيل القضيتين الوطنية والقومية، وخدماته التي قدّمها للدولة العراقية في الحرب والسلم كلما دُعي إلى تقلد مهمة حكومية. كان العراق، حينها، سليماً معافى من الداء الطائفي والمذهبي العضال، الذي ألمّ به منذ ابتداء الغزو، ولم يكن يعرّف نفسه كما يُعرّف الآن بلداً لـ«الشيعة» و«السنّة» والكرد، بل وطن للعراقيين جميعاً وأحياناً للعرب جميعاً. ما أحد من العالمين سمع، في عهد الدولة الوطنية، أن ولاء هذا الفرد أو تلك الجماعة معقود لطائفة أو مذهب أو عرق؛ فالولاء كان واحداً ولجهة وحيدة حصرية: الدولة والوطن.
الحزب الذي قاد الدولة الوطنية في العراق لمدى خمس وثلاثين عاماً (1968-2003) وهو «حزب البعث العربي الاشتراكي»، هو البيئة التي ربي فيها طارق عزيز، وتشبّع فيها بقيم الوطنية والعروبة. في وُسع خصوم الحزب وأعدائه أن يقولوا في حقّه نقداً ما شاؤوا، لكن منصفاً من هؤلاء الناقدين لن يقوى على أن يجحد حقيقة غير قابلة للنكران؛ هي أنه حزب بُني على ولاءات أفقية غير طائفية أو مذهبية أو عرقية، فكان فيه مسلمون ومسيحيون، عرب وكرد. بل، حتى إذا ما استخدمنا العبارات التقسيمية الرثة من «شيعة» و«سنّة»، سنلحظ أن نصف أعداد المنتسبين إلى ذلك الحزب كانوا «شيعة»: في قواعده كما في قياداته المحلية والوطنية. وكما لحمت هؤلاء رابطة الوطنية العراقية، التي لا تعترف بـ«هويات» فرعية عصبوية، كذلك لحمتهم رابطة العروبة وكوّنت وعيهم الفكرة القومية العربية التي مدارها على عقيدة الأمة الواحدة.
ومثل الحزب كانت الدولة؛ لم يقُم نظام الحكم، في عهد «حزب البعث» والدولة الوطنية، على احتصاص طائفي، كالذي فُرض على العراق من بريمر وعملائه الحاكمين اليوم، وإنما قام على مبدأ المواطنية. إذا أُقصي أحد أو جماعة، فليس لأسباب طائفية أو مذهبية بل لأسباب سياسية (معارضة النظام القائم، التعاون مع النظام الايراني، العلاقة بالبعث السوري.. الخ). أما حرب النظام على القوى «الدينية»، فلم يكن بسبب لونها المذهبي، بل لأن النظام القائم علماني؛ وآي ذلك ان النظام لم يحارب «حزب الدعوة» الشيعي فحسب، بل وجماعة «الاخوان المسلمين» السنية ايضا. قد يكون اشطط في الاستبداد -وهو قطعاً اشطط فيه- ولكنه الاستبداد الذي ما بني على حامل طائفي أو مضمون مذهبي على مثال الاستبداد الذي تقوم به النخب الحاكمة العميلة في عراق ما بعد الدول الوطنية. وعدم طائفية ومذهبية استبداد نظام «البعث» يقوم عليه دليل من الحزب نفسه؛ فالكثير ممن عوقبوا او صفوا من البعثيين، اصابهم ما اصابهم لأسباب سياسية صرف تتعلق بمقدار الولاء للقيادة أو الاعتراض عليها.
ويصدق على علاقة الدولة بمواطنيها ما يصدق على علاقة الحزب بالمنتسبين اليه؛ لن تكن المناصب تمنح على اساس طائفي أو مذهبي، بل على اساس الكفاءة والولاء للدولة. وحتى حينما كان هذا المبدأ ينتهك، فيخص الموالون للنظام بالأولوية في التعيين، لم يكن يقع ذلك على اساس مذهبي، بل على اساس سياسي لا يلتفت الى مذهب المشمول بالامتياز. وقد تكون مؤسسة الجيش اكثر مؤسسات الدولة تعبيراً عن اولية مبدأ المواطنة والولاء للدولة، وترجمة لغياب العلاقات الطائفية. اعترف الغزاة الأميركيون انفسهم ان قرابة الستين في المائة من افراد الجيش العراقي ـ في عهد صدام حسين ـ (كانوا) من «الشيعة» (وكذلك كان آخر وزير دفاع قبل الغزو) وهؤلاء هم انفسهم الذين خاضوا الحرب ضد ايران، والحقوا بها الهزيمة، ولم يساوموا على الولاء للوطن باسم الولاء للمذهب، وهم انفسهم الذين اخمدوا حركة التمرد المسلح في جنوب العراق (المدعوم من ايران) بعد حرب العام 1991، لأنه تمرد مذهبي على الدولة.
ليس المقام مناسبة للحديث في نظام الرئيس صدام حسين ورجاله -والراحل طارق عزيز منهم- وإنما هو لبيان الفارق الخرافي بين عصر الدولة الوطنية في العراق، وعصر الفوضى والغاب الذي تديره الضواري التي أطلق الاحتلال عِقالها لتُعمل معاول الهدم والتمزيق في البقية الباقية من المجتمع العراقي! إن البلد، اليوم، مختطف من قِبل عصابات القتلة من كل المِلل والنِّحل، ومُدار من مافيات النهب والفساد، ومساق مصيره إلى حتف لا يليق باسمه وتاريخه! لا دولة، ولا مؤسسات، ولا أحزاب وطنية، ولا جيش وطني، ولا أمن ولا قانون؛ وإنما نخبة جاء بها الاحتلال وورثتها منه إيران، وميليشيات تذبح في بعضها وفي الشعب، وتهجّر السكان، وتضع يد النهب على مصادر الثروة. ليس من فرق بين «النظام» الحاكم و«الحشد الشعبي» و«داعش»؛ كلهم أسوأ من بعضهم، ولا يشبههم في السوء إلا الاحتلال الذي يبرر الجميع ساحته مما فعل للبلاد والعباد: النخبة الحاكمة وحشدها «الشيعي» تريده أن يدمّر قوافل «داعش» ومراكزها؛ والعشائر «السنية» تطالبه بتسليحها لمواجهة تعديات «الحشد» و«داعش»؛ والقيادات الكردية ترتمي في أحضانه! أي تبرئة هي، إذن، للاحتلال وجرائمه: من المتعاونين التقليديين معه، ومن المتعاونين الجدد. يستجيرون من الرمضاء بالنار، وليذهب العراق إلى الجحيم بعدهم!
من دولة وطنية إقليمية ذات شأن، إلى وطن ذبيح بين أيدي قتلة ومتعاونين. أما العرب فهم عنه لاهون، فيما بلدان عربية أخرى تتحول، على مرأى منهم، إلى عراق جديد! ولا حول ولا قوة إلا بالله.