عوني فرسخ
أفادت الأنباء بتصدع حائط البراق في القدس المحتلة، والسؤال ليس فقط من سيتولى أعمال الصيانة التي يحتاج إليها، وإنما أيضاً من سيهب انتصاراً لإسلام حائط البراق وعروبته في زمن استشراء التطبيع مع العدو الصهيوني ومصالحته؟ ذلك أن حائط البراق بعض من الجدار الغربي للحرم القدسي موضوع قداسة المسلمين على اختلاف جنسياتهم ومذاهبهم، حيث يعتقد أن الرسول عليه الصلاة والسلام، ربط عنده البراق ليلة الإسراء والمعراج . فيما يدعي اليهود أنه من بقايا هيكل سليمان ويدعونه “الجدار الغربي”، بينما يسميه المسيحيون الغربيون “حائط المبكى”، إذ اعتاد اليهود البكاء عنده على هدم الهيكل، ووضع وريقات بين شقوقه فيها أدعية وأمنيات . وبرغم أن الحائط وقف إسلامي جرى تسامح المسلمين تجاه ممارسات اليهود والمسيحيين الغربيين باعتبارهم “أهل الكتاب”، وتواصل العمل بالعرف التاريخي حتى نهاية العهد العثماني .
ومع أن الحركة الصهيونية علمانية وأغلبية قادتها المؤسسين ملاحدة، إلا أنها اعتادت توظيف الادعاءات والأساطير اليهودية في خدمة مشروعها الاستعماري الاستيطاني . ولقد عدّت حائط “المبكى” تعويضاً عن غياب الهيكل . وغداة الاحتلال البريطاني للقدس في11/12/1917 قامت مفرزة يهودية من جيش الجنرال اللنبي بإقامة الصلاة في الساحة المقابلة لحائط البراق مخالفة العرف التاريخي . وأعقب ذلك كتابة حاييم وايزمان لوزير الخارجية البريطاني بلفور مطالباً بتسليم الحائط للهيود، مدعياً أن “أقدس نصب لدينا، في أقدس مدينة، عندنا هو في أيدي جماعة دينية مغربية مشبوهة” . وكثف الصهاينة جهودهم لشراء المنازل والساحات القريبة في حارة المغاربة، ولكن جهودهم باءت بالفشل كون جميع تلك المنازل والساحات وقف إسلامي غير قابلة للبيع مهما غلا الثمن، فضلاً عن جوارها لحائط مقدس يشكل جزءاً من الجدار الغربي لحرم المسجد الأقصى وقبة الصخرة .
وتوالت المحاولات الصهيونية في تسجيل مواقف تدعم ادعاءاتهم بملكية “الجدار الغربي”، فيما تواصل تصدي أهل القدس وقيادة الحراك الوطني الفلسطيني للمحاولات الصهيونية، حتى تحولت إلى صدام في 24/9/1928 حين أقدم الصهاينة في ذكرى خراب الهيكل الثاني على وضع ستار للفصل بين الرجال والنساء في الساحة المقابلة لحائط البراق مخالفين العرف التاريخي، الأمر الذي اعترض عليه العرب بشدة، وتدخلت سلطة الانتداب بإزالة الستار فقام الصهاينة بمظاهرات صاخبة . ولما لم يسمح المندوب السامي للعرب القيام بمظاهرة سلمية، دعا المفتي الحاج أمين الحسيني إلى عقد مؤتمر عربي قومي في القدس، حضره 700 شخصية من جميع أنحاء فلسطين والدول العربية المجاورة، مؤكدين الالتزام بحماية مقدسات الأمة العربية في فلسطين باعتباره هدفاً قومياً ودينياً .
وفي العام ،1929 وبالمناسبة ذاتها، صعد الصهاينة من تحديهم بأن سيروا مظاهرة باتجاه حائط البراق رافعين الأعلام الصهيونية ومرددين نشيد “الهاتكفاه” . وصادف اليوم التالي عيد المولد النبوي فقام العرب بمظاهرة مضادة، أعقبتها صدامات دامية في معظم مدن فلسطين، خاصة في الخليل وصفد، سقط فيها 116 شهيداً و 232 جريحاً . وقد أبدت خلالها القوات البريطانية انحيازاً سافراً إلى الصهاينة، بحيث وجد المقاومون العرب “أنفسهم في مواجهة التحالف الإنجليزي – الصهيوني، ما أذكى حماستهم واندفاعهم في التصدي للتحالف المضاد، وشكل رافعة للحراك الوطني في عموم فلسطين” .
وبرغم وساطات المعتدلين العرب نفذ حكم الإعدام شنقاً يوم الثلاثاء 27/6/1930 بكل من: عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، الذين أبدوا شجاعة ورباطة جأش ساعة إعدامهم، خلدتهم في الذاكرة الفلسطينية والعربية، كما رثاهم إبراهيم طوقان بقصيدة “الثلاثاء الحمراء” مسجلاً بأبلغ الشعر وأروعه مواقف العز والشموخ للمتسابقين الى حبل المشنقة، واستقبال الأمهات في أكمل زينة لفلذات أكبادهن بالزغاريد، مبدعات تقليداً صار عرفاً فلسطينياً بأن يسُتقبل الشهداء بالزغاريد والأغاني، ويستقبل أهلهم المهنئين وليس المعزين .
وكانت “عصبة الأمم” قد شكلت لجنة دولية للبحث في حقوق الطرفين العربي والصهيوني في الحائط موضوع النزاع، انتهت بإصدار تقرير تضمن ما نصّه: “إن طلب اليهود نزع ملكية حارة المغاربة لدليل على نوايا اليهود في أن يستولوا تدريجياً على الأماكن الإسلامية المقدسة، ولما كانت مطالب اليهود غير مستندة إلى أيّ حجة قانونية فمن الواجب ردها” . وتأسيساً على تقرير اللجنة الدولية صدر عن مجلس ملك بريطانيا في مايو/أيار 1931 قرار ينص على أن “للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه لكونه جزءاً لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف . وللمسلمين أيضاً تعود ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط، وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط كونه موقوف حسب أحكام الشرع الإسلامي لجهات البر والخير” .
وواضح من تقرير لجنة “عصبة الأمم” وقرار مجلس ملك بريطانيا، راعية المشروع الصهيوني، أن حائط البراق وقف إسلامي، والمسلمون، وفي طليعتهم العرب، منهم مسؤولون عن حمايته والتصدي لمحاولات الصهاينة صنع حقائق تتجاوز العرف التاريخي الذي لا يسمح لهم بما يجاوز البكاء أمامه ووضع وريقات بين شقوقه . ولما كان حائط البراق يحتاج إلى صيانة عاجلة فمن سيقوم بها، ويتصدى لما قد يقدم عليه الصهاينة لتعزيز ادعائهم بملكيته؟
هل ستنهض بمهمة الصيانة والتصدي سلطة الرئيس محمود عباس، باعتبار “القدس الشريف”، عاصمة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين، أو أنه لمايزل وفياً لاتفاق أوسلو الذي يؤجل موضوع القدس إلى مفاوضات المرحلة النهائية غير معلوم وقت انعقادها؟
أو سينهض بالمهمة المزدوجة الشيخ رائد صلاح، صاحب مبادرة إعمار المسجد المرواني، باعتباره وجماعته الأقدر على الوصول إلى القدس المحتلة . أو أنه غدت له أجندة جهادية متقدمة على أبسط الجهاد فلسطين؟
هل سيقوم بالأمر النظام بمصر وارث دور مصر التاريخي في التصدي لأعداء العروبة والإسلام، أو أن التزام الإخوان المسلمين بمعاهدة كامب ديفيد لا يسمح لحكومة د . مرسي بالتدخل فيما يعده صديقه العزيز شمعون بيريز تدخلاً في شؤون “أورشاليم” العاصمة الأبدية لدولة اليهود؟
هل إن صيانة حائط البراق، وحماية عروبته وإسلامه، ليس لهما غير شباب القدس . كما هو عهدهم في التصدي للغزاة الصهاينة، مساهمين بذلك في تفجير الانتفاضة الفلسطينية الثالثة التي هدد محمود عباس بأنه لن يسمح بها مادام رئيساً؟