اسماعيل ابو البندورة
كانت استراتيجية الاستعمار التقليدي في الوطن العربي تتأسس على تفتيت الأمة وتبهيت فكرة الوحدة العربية نظريا وعمليا، أو جعلها عند الضرورة مؤسساتية شكلانية على غرار جامعة الدول العربية أو ما اقترح قبلها وبعدها من تشكيلات ومشاريع وأحلاف تكون في جوهرها ضد فكرة الأمة والقومية الواحدة وذلك لمنع قيام وحدة حقيقية بين الأقطار العربية الى أن تتوجت تلك المخططات بإقامة الكيان الصهيوني اللقيط ليكون مشروعا وقاعدة استعمارية تفكيكية متقدمة تحول دون نهضة ووحدة الأمة العربية وتبقيها في دوامات سياسية وتناقضات مسترسلة لا تعطيها القدرة على بناء عقلها وواقعها بطريقة عصرية نهضوية.
وقامت هذه الفكرة الاستعمارية على تأسيس وصياغة وتوليد شروخ وتناقضات وتشققات راسخة ودائمة (سياسية وحدودية) وتأجيجها وإشاعة فوضى مدمرة ومدبّرة استعماريا لتكون سمة من سمات هذه المنطقة وعنوانا لكل ما يجول ويدور فيها من تحركات وأفكار ، ونجحت هذه الاستراتيجيا التفكيكية النابذة والمدمرة في إبقاء الوطن العربي في مثل هذه الحالة من الانحطاط والتلاطم والتأخر ، كما نجحت في خلق واستنبات الأدوات الداخلية التي تبنت هذه الاستراتيجية وحولتها الى خيار و طريق ونهج في الحكم وفي التعامل مع الأقطار العربية الأخرى ، فكان ما كان من الأنانية السياسية المفرطة ورهاب الوحدة والتمسك المرضي العصابي بالسلطة القطرية على حساب المباديء الكبرى للأمة وعلى حساب التطلع الشعبي العربي الجمعي في إقامة الكيان الوحدوي القوي للأمة العربية والذي يمكنها أن تكون ذاتا في التاريخ لا موضوعا هامشيا له كما يراد لها في المرحلة الراهنة .
وعندما حقق المشروع الاستعماري استراتيجيته على هذا النحو انتقل الى مرحلة تالية نشهد تجلياتها وتداعياتها في مرحلتنا الراهنة وهي تفتيت الدول والمجتمعات لتكون دويلات طوائفية وملل ونحل متناحرة تجعل الكيان الصهيوني ومكوناته الشاذة نموذجا أو صياغة مستساغة ومقبولة في هذه المنطقة من العالم كما أنها تتيح لهذا الكيان سهولة العيش والاستمرار الطبيعي والتسيد الدائم والنيابة عن الاستعمار المباشر في ادارة المنطقة وتغيير ماهيتها القومية واحتواء تاريخها وتطلعاتها النهضوية .
وإذا ما أدرجنا دور ايران الخمينية منذ اندلاع ثورتها “الاسلاموية ” في إطار محاولات التفتيت واختراق الدول والمجتمعات العربية فإننا نكون أمام مشروع استعماري متكامل ومتصاعد بدأ بشكل معين وبدفع من قوى استعمارية تقليدية – بريطانيا وفرنسا – ضد الأمة العربية وانتهى بأشكال جديدة ومتجددة ( أمريكياً – تفتيت وتفكيك الدول وايرانياً – شرذمة المجتمعات العربية طائفيا وطرح الصيغة المذهبية الطائفية بديلا عن المرجعية القومية الجامعة ).
وهذا ما نشهده في المرحلة الراهنة فعليا ويمثل ذروة ما وصلت اليه الفكرة الاستعمارية في عداءها للأمة العربية ومحاولاتها التي لم تني تصطنع الاشكال المختلفة لاخراج هذه الأمة من التاريخ أو وضعها تحت الوصاية الاستعمارية الدائمة واستتباعها وفقا لأهواء هذه الدول.
والملاحظ أن أطرافا وقوى وتيارات سياسية عربية مختلفة قد أدركت بعض مفردات هذا المشروع الاستعماري القديم – الجديد بشكل أو بآخر، وعانت الكثير من تطبيقاته الضارة إلا أنها لم تستطع صياغة الرد الجذري الموحد عليه واستغرقت في تناقضاتها حد إفساح المجال له ليأخذ مداه وأبعاده الكارثية أو انخرطت في نقاشات طرشانية عمياء ( كما هو الامر راهنا عند الحديث عن دور ايران وأخطار هذا الدور) ، وتلك من مفارقات الوعي والممارسة العربية التي تؤشر على انخفاض منسوب الاستبصارات والاستدراكات المطلوبة في المرحلة الراهنة وتفسح المجال لكل العقائد الضارة والاستباحات المختلفة أن تأخذ طريقها الى الوعي والعقل العربي .
وإذا كان خيار التفتيت هو ما يفصح عنه ويجسده على الارض المشروع الاستعماري – الصهيوني الكبير، فماذا يجب أن يكون الخيار المضاد في المرحلة الراهنة ؟
في الاجابة العاجلة والأولية عن السؤال نقول أن البداية تكون بصياغة تعريفات جديدة وواضحة للماهية والهوية القومية بما يجعلها أفكارا مستساغة ومعاصرة لنا لاحتواء الأزمة العربية . نبذ ومجابهة الفكر الطائفي بكل أشكاله ومدارسه وإعادة الاعتبار للأفكار الجمعية والمرجعيات الكبرى . تعزيز الوحدة الوطنية داخل الأقطار العربية واستحداث مصالحات وتوافقات داخلها تجعلها محصنة ضد الدعوات الانقسامية بكافة أشكالها . تكوين رأي عام شعبي عربي يأخذ على عاتقه إدامة التواصل بين أبناء الأمة وبين المنظمات والأحزاب والروابط والجمعيات الشعبية العربية بغية خلق حالة شعبية نابذه للتقسيم والتفتيت وداعية الى الوحدة والتوحد بمواجهة التطييف والتفتيت وكل دعوات تقسيم الوطن العربي.