د. عبدالاله بلقزيز
في مثل هذه الأيام، قبل سنوات ست، صدحت حناجر المنتفضين، في مدن تونس وشوارعها وساحاتها العامة، بشعارين قذفتهما في وجه زين العابدين بن علي، الرئيس السابق، ونظامه السياسي: «ارحل» و«الشعب يريد إسقاط النظام». ما إن تسلّم «ميدان التحرير» في القاهرة الشعار الثاني حتى عممه على كل الساحات العربية التي شهدت حراكاً احتجاجياً في ذلك الوقت، مستفيداً من خبرة تاريخية طويلة كانت فيها مصر مصنعاً متقدماً للأفكار والمواقف والشعارات، ومصدّراً لها في الوقت عينه إلى محيطها العربي. وإذا كنا لا ننكر أن من أسباب تدحرج الانتفاضات و«الثورات»، وانتقالها من بلد إلى بلد، تشابه المعطيات الاجتماعية والسياسية التي قادت إليها، فإننا لا نستبعد – ولا استبعدنا يوماً – أن تكون مصر وانتفاضتها قاطرة القيادة ونقطة الجذب الرئيسية؛ فلقد بدت «ثورة» 25 يناير وكأنها تستدرج لها النظائر في كل بلد، وتقدم لها المثال الذي على منواله ينسج. وما ذلك إلا لمركزية مصر في محيطها ذاك، وسبقها في السياسة والعمل السياسي والاجتماعي.
وما كان شعار ميدان التحرير («الشعب يريد إسقاط النظام») زائفاً أو مبالغاً فيه، حتى على فرض أنه دس إلى المنتفضين من خارج – مثلما يحلو لكثير من الناس أن يعتقد – وإنما أفصح عن لحظة اعتراض مميزة اجتمع فيها الكبرياء الوطني إلى الإرادة السياسية إلى الشجاعة الأدبية، فأتى (الشعار) يؤذن بانتهاء طور الصبر الطويل على العسف وبؤس الحال. ويشهد لصحة ذلك أن من يستعيد السياقات العربية التي تولدت منها الانتفاضات، وجرت في أكنافها، يدرك – بمقدار من اليقين – أن أحوال الفساد والاستبداد كانت بلغت من التفاقم والاستفحال حدوداً لا طاقة لمخلوق على تحمل أعبائها الثقيلة، وأن شيئاً ما، بالتالي، قد يحدث – بل ينبغي أن يحدث – لكف الضغوط المهولة على الناس وأرزاقهم وحرياتهم. وما كانت مشكلة الانتفاضات و«الثورات» تلك أنها أساءت تشخيص الأوضاع، أو بالغت في تقدير درجات الفساد والاستبداد في النظام العربي، وإنما كانت في سوء تقديرها لقدرتها على رفع الرد على الأوضاع إلى مستوى متقدم: إسقاط النظام، أي في حسبانها إسقاطه فعلاً ممكناً ويسيراً ما إن تجتمع الإرادات ويتكثف الضغط. والحق أن الإسقاط كفعل هدم ميسور إلى حد، ولكن العبرة ببناء نظام جديد بديل، لا بأن يكتفى بإزالة نظام سابق. والحال إن مقتل «الثورات» تلك إنما كان هنا: حدث الفراغ السياسي، ولم يقو أحد على ملئه، بل لم يقع تفاهم وتوافق وطني على ذلك، فانتهت الأمور إلى حيث عادت القهقرى إلى نقطة الصفر! وفي أسوأ الأحوال عادت إلى ما قبل السياسة وقيام الدولة!
انصرمت الحقبة التي دوى فيها شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» بانصرام القوى المدنية والانتفاضات الشعبية السلمية التي رددته في الساحات، وها هي حقبة جديدة – أطول – أعقبتها، منذ العام 2012، اختلفت فيها الوجوه والأسماء والشعارات والوسائل. إنها حقبة «ما بعد السياسة» (والحق أنها حقبة ما قبل السياسة)؛ حيث الكلمة للعنف لا للسلم، للسلاح لا للتظاهر والاعتصام، للميليشيات لا للجماهير، للمرتزقة المستوردين من أصقاع الأرض كافة لا لأبناء البلد، للمعارضات المأجورة والعميلة لا للمعارضات الوطنية، لتصفية حسابات أنظمة مع نظام حاكم، لا لتسوية نزاع بين شعب ونظامه، لتدمير الدولة وتمزيق وحدة الشعب والوطن لا لإسقاط نظام وبناء آخر بديل، لإنشاء إمارات دينية ميكروسكوبية لا لإقامة دولة وطنية، لتأسيس نظام ثيوقراطي لا لبناء الديمقراطية، لإعدام الحريات وحقوق المرأة وفرض الجزية على قسم من السكان (المسيحيين) لا لتعزيز الحريات العامة وحقوق المواطنة…الخ! إنها حقبة الإرهاب؛ حقبة الموت الجماعي والقتل و«حرب الجميع على الجميع» – بالمعنى الهوبسي – ولذلك أطلقنا عليها نعت حقبة ما قبل السياسة.
انتقلنا من مفاعيل شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» إلى مفاعيل شعار آخر هو «السلاح يريد إسقاط الدولة». الفارق بينهما كبير؛ الأول مشروع وإن كان طوبوياً، والثاني خطر على وجود الشعب والوطن والأمة؛ الأول قد ينتظم في خط بناء السياسة وتعظيمها، والثاني ينتمي إلى فعل هدم السياسة ونقضها ومحوها؛ الأول يرفعه المواطنون؛ والثاني يطبقه المسلحون؛ الأول له حامل اجتماعي – سياسي هو القوى المدنية، والثاني ما من حامل له سوى الميليشيات؛ الأول يجري سلماً، والثاني تجري فيه الدماء؛ وفي الأول رائحة الشعب ومطالبه، وفي الثاني بصمات الصهيونية؛ وفيما يبني الأول وحدة الشعب والمجتمع خلف مطالبه، يأخذ الثاني الشعب والمجتمع إلى الانقسام والفتنة والحرب الأهلية…الخ. إنه، باختصار، الانتقال من زمن السياسة والسلم المدني إلى زمن الإرهاب والحرب المفتوحة (على المجتمع والدولة). وإذا كان مشروع «الشعب يريد إسقاط النظام» قد انتهى بقواه إلى نصف انتصار ونصف هزيمة (في تونس ومصر واليمن)، سيقود مشروع الإرهاب، الذي يبغي إسقاط الدولة، قواه إلى هزيمة ساحقة في الساحات التي أطل منها وعاث فيها فساداً (سوريا، ليبيا، العراق). ومثلما كانت خيباتنا كبيرة من مشروع كشف عن الحدود المتواضعة لإمكاناته، هو المشروع الأول، وتبينت معه الفجوة الرهيبة بين الينبغيات الكبرى (الطوباوية) والموارد الذاتية المتاحة (المحدودة)، كذلك كانت نكبتنا عظيمة، بل فجائعية، بأهوال المشروع الثاني ومغامراته الخرقاء الإجرامية؛ فلقد مزق مجتمعاتنا، وأنهك اقتصاداتنا، واستباح أوطاننا، ودمر مكتسباتنا، وأباد شعوبنا، وبدد ثرواتنا في الحروب الداخلية، وجهل ملايين الأطفال من أبنائنا وجند الآلاف منهم في فيالق الموت، وأحدث الوقيعة داخل مجتمعاتنا، وأعاد اجتماعنا قروناً إلى الوراء، وأساء إلى صورة ديننا، وأفسد علاقاتنا بالعالم! وهكذا قادتنا خيبات المشروع الأول إلى الحبوط، فأتت فاجعة الثاني تقودنا إلى اليأس الوجودي الكالح لتنسينا خيبة الأول.