عبدالإله بلقزيز
نعيش اليوم، بل منذ سنوات خلت، أسوأ صورةٍ من صور العلاقة بين دول العرب. ما من حقبةٍ مرَّت علينا، في التاريخ المعاصر، أكثر حلكةٍ من هذه الحقبة التي تُخاصِمُ فيها دولٌ دولاً من الدائرة القومية والحضارية عينِها، ويمتنع فيها الاجتماع على رأيٍ واحدٍ في المصيريِّ من القضايا والمسائل مثل: قضية فلسطين، والصراع العربي- الصهيوني، وتحديات الأمن القومي، واستفحال ظاهرة الإرهاب في الأعمّ الأغلب من البلاد العربية، وانهيار علاقات التعاون الاقتصادي البيْني، وفقدان الأمن الغذائي، وانهيار أسعار الطاقة في الأسواق الدولية، واللجوء القسري لملايين المواطنين العرب إلى أصقاع الدنيا هربًا من الحروب، والهجرة الكثيفة للكفاءات العلمية العربية إلى الخارج، بحثًا عن العمل… إلخ. كأنّ أمهات المشكلات هذه، التي تضغط على الحاضر، وتهدّد المستقبل، ليست تكفي وطأتُها الشديدة لدقّ نواقيس الخطر، وتعقيل الفكر، ودفع دول العرب إلى التداعي إلى كلمةٍ سواء لبحث هذه الأخطار، وكفِّ نتائجها الكارثية، وإعادة الحياة إلى جسم التضامن العربي الذي أصابتْه الخلافات البينية في مقْتل!
جامعةُ العرب معطّلة منذ زمنٍ، وميثاقُها منْسيٌّ، والتزاماتُ أعضائها شكلية، واتفاقاتُها وقراراتُها حِبْرٌ على حِبِر، وإصلاحُها معلَّقٌ إلى ما شاء الله، وهيبتُها في العالم كلِّه في الأرض، ومصداقيتُها مفقودة عند الشعوب العربية، وما من أحدٍ في أرض العرب يعوِّل عليها… حتى أنّ اتحادات إقليمية فرعية عربية باتت أفْعَلَ منها وأَحْكَم، مثل «مجلس التعاون» الخليجي. والاتفاقاتُ الثنائية، بين دولةٍ وأخرى، والمجالس العليا للتعاون مجمَّدة أو معطَّلة، وكأنها أُبرِمتْ أو أُقيمت للزينة فقط، أو لرفْعِ العتب في أفضل الأحوال، فيما علاقات أيِّ دولةٍ عربية بالدول الأجنبية أضعاف أضعاف علاقتها بشقيقاتها العربية في مجالات التعاون الاقتصادي والتنموي والأمني… ! والفضائيات التلفزية، والإذاعات، والصحف تتشاتم وترفع معدّل التوتُّر بين حكومةٍ وأخرى، بل بين شعبٍ عربي وآخر، فلا تجد ما تخوض فيه غير ما يَفْتق ويفرِّق، لا ما يرتق ويَجْمع، لتقدِّم بذلك الأداءِ أسوأ صورة عن العرب للعالم!
والأقلام تُحابي وتُمالٍئ، وتسكت عن الغلط، ولا تكتب وفقًا لبُوصلة المصالح العليا للأمّة، لا ولا تكتُب لِمَا يَجْمع ويوحِّد، وما يصوِّب المسارات، ويسُدّ الثغرات، ويربط وجدان الناس وهواجسهم بقضايا المصير القومي، وإنما تُسرِف في تزنيد جمْرات الخلاف والبغضاء والفُرقة، وكأنما ذلك من رسالة الفكر والثقافة، وممّا تنتظره الأمَّةُ من نخبها!
وأتت ألسنةُ لهيب «الربيع العربي» تُحْرِق البقيةَ الباقية من أواصر الوحدة ووشائج العلاقة المصيرية. وهو ما اكتفى بدقّ إسفين الشِّجار والمنازعة بين أبناء الشعب الواحد، في القُطر الواحد، فدفع الواحد منهم إلى مخاصمة الآخر، وإلى مقاتلته أحياناً، ليتحوَّل الشريكُ في الوطنِ والمصير، فجأةً، إلى خصم، وليتحوّل الخصمُ إلى عدوّ، بل زاد على ذلك بأن فجَّر العلاقات بين بلاد العروبة، وأفْسَد بقايا صفْوها، وأدخلها جميعَها، وعلى تفاوتٍ، في منازعاتٍ بيْنية لا رابح فيها سوى الكيان الصهيوني!
لماذا وصلت العلاقات بين البلاد العربية إلى هذه الحافّة المخيفة؟ هل ذلك من أخطائنا أم من كيْد الأعداء لنا أم منهما معاً؟
ليس الوقتُ وقتَ حساب، إنه وقتُ التفكير، الصادق مع النفس، في الكيفية التي نوقِف بها هذا التدهور الخطر في العلاقات العربية العربية، ونُخرج بها أنفسنا من هذا النفق الذي دخلنا، أو أُدخلنا، فيه. وليس يحصُل مثل هذا التفكير الصادق والسليم إلاّ متى استرشد بمبادئ وثوابت، قامت عليها العلاقات العربية منذ تأسست في نظامٍ إقليميٍّ جامع قبل نيّفٍ وسبعين عاماً. وهي المبادئ والثوابت التي ما أغنانا عن القول إنّ الذهول عنها كان دائمًا مدخلاًً سيئاً نحو الانحدار والتدهور. ويكفينا، هنا، اختصاراً وتكثيفاً أن نجمعها تحت عناوين ثلاثة:
أوّلها، التشديد على مركزية قضية فلسطين، بوصفها الجامع القومي المشترك بين دول الأمَّة، ومجتمعاتها وشعوبها، وبناءُ السياسات العربية على هذا المقتضى. فلسطين جزءٌ من الوطن العربي، وشعبها جزءٌ من الأمّة، والمحتل الغاصب لها عدوٌّ للفلسطينيين والعرب، وخطرٌ دائم على أمن الوطن العربي، ومستقبله. لم تخطئ الأجيال السابقة من القيادات العربية، حين أجمعت على أنّ الصراع العربي- الصهيوني أولوية سياسية عربية تعلو أيَّ أولوية أخرى. وهل يمكن أن ينسى أحد، مثلاً، ما استطاعه ذلك التضامن في حرب أكتوبر 73؟
وثانيها، التشديد على مبدأ التعاون العربي العربي، على الاعتماد المتبادل والتكامل في مجالات الاقتصاد، والتنمية، والأمن القومي. وهو مبدأ أجمعت عليه الأجيال السابقة من القيادات العربية، بصرف النظر عمّا إذا كان قد أصابت حظًّا من النجاح فيه. يكفي أنّ إحلاله في منظومة المبادئ والأولويات أنتج عشرات الاتفاقيات الكبرى التي كان يمكنها، لو نُفِّذت، أن تغيّر وجه الوطن العربي، وتفتح أمامه إمكاناتٍ مذهلةً للتقدم. هل ننسى، مثلاً، اتفاقية السوق العربية المشتركة، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك في عقد الخمسينات؟ ماذا كان سيكون عليه وضْعُنا لو وقَع تَطبيقُها؟
وثالثها، التمسُّك الثابت بمبدأ التوافق حاكماً للعلاقات البينية العربية، بعيدًا من أخلاقيات المغالبة ومُكاسَرة الإرادات، أو نزعات الإقصاء والعزل والاجتثاث. وينبغي لمبدأ التوافق هذا أن يحكُم العلاقة بين العرب في ما بينهم على صعيدين: على الصعيد القُطري بين الأنظمة والمعارضات، وعلى الصعيد القومي بين الدول والحكومات العربية بعضها البعض. ومن مقتضيات التوافق الحوار والاجتماع على مشتَركات في قلبها: تحييد العنف في المنازعات العربية، وتكريس سياسة المصالحة والوفاق، وتغليب قيم التعاون المشترك (بين الدولة والمجتمع، السلطة والمعارضة، ثم بين الحكومات)، والحفاظ على وحدة الوطن الواحد ووحدة الشعب والأمّة، وعدم محالفة الأجنبي للاستقواء على نظامٍ أو على دولة، حماية مكتسبات الدولة والشعب وعدم تعريضها للتبديد.
بالعودة إلى هذه المبادئ الثلاثة، بتفعيلها وتحكيمها في العلاقات العربية العربية، نستطيع فقط أن نخرج من هذا النفق المسدود إلى رِحابِ مستقبَلٍ مشتَرك باجتماع الإرادات كافة.